في الثالثة من عمره، غادر جيلي عبد الرحمن قريته في جزيرة صاي النيلية بالسودان لتستقر عائلته في بلدة أنشاص الرمل بمصر، ويتلقّى في كتاتيبها تعليمه الأولي قبل أن يلتحق بجامعة الأزهر ليدرس علوم اللغة العربية عام 1947، وبدأ ينشر قصائده ومقالاته بعد سنوات قليلة في الصحافة المصرية.
بدت شخصية الشاعر السوداني (1931 – 1990) الذي تحلّ اليوم الأربعاء ذكرى رحيله، صاخبة منذ كتاباته الأولى، حيث احتج على ضياع المكان؛ سلسلة القرى النوبية في وادي حلفا التي ولد في واحدة منها، مع هجرة معظم أبنائها في منتصف القرن الماضي طلباً للرزق، ثم غرق بعضها بسبب تشييد السدّ العالي، وظلّت تلك الأطراف خارج خطط الدولة لتنميتها.
يقول عبد الرحمن في قصيدته "بوابات المدن الصفراء": "إن لذت بجنح الصمت/ مئذنتي.. أطرقت/ وقلت.. الموت/ تراه الموت؟/ غرقى أنتم مثل النخل.. الأحياء/ سوف أقول لأصحابي.. شكراً/ وتعالوا في أمسية أخرى/ في أيديكم عشب الذكرى".
انجذب إلى اليسار باكراً مع آمال عريضة بزوال الأنظمة العربية التابعة للاستعمار، وتحقيق العدالة الاجتماعية للشعوب المقهورة، فتوجّه إلى موسكو عام 1961 ودرس في "معهد جوركي للآداب" حيث نال درجة الماجستير، وأكمل دراساته العليا في "معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية"، وحاز درجة الدكتوراه في الآداب.
عبّر عن مواقفه السياسية في كتابه "المعونة الأميركية تهدد استقلال السودان" الذي أصدره عام 1958، وظلّ معارضاً لجميع أنظمة الحكم في بلاده بعد الاستقلال، وكان قد نشر قبل ذلك ديوانه الأول "قصائد من السودان" بالاشتراك مع الشاعر السوداني تاج السر الحسن (1935 – 2013)، وتضمّن قصيدة بعنوان "شوارع المدينة" يرد فيها: "مشيت في شوارع المدينة الحزينة/ تكوم الرعاع.. وإخوة جياع/ يسعلون.. يضحكون!!/ وأبصرت عيناي في مفارق الطريق/ صبية عنيدة مقطوعة الذراع/ تموج في الصراع/ والناس في الصقيع يحلمون بالربيع/ وعدت من هناك من نقاوة الحقول/ وهمسة الغدير/ أبارك الجموع".
شكّل مع أبناء جيله نقلة نوعية في موضوعات شعر التفعيلة الذي كتبوه
عمل عبد الرحمن محرّراً في جريدة "أنباء موسكو" بعد تخرّجه، ثم مراجعاً للكتب في "دار التقدم للنشر" عام 1975، حيث صدرت له ترجمة لمختارات من قصائد الشاعر الكازاخي أباي كوننبايف الذي حشد أساطير بلاده وثقافته في مواجهة الإقطاع والظلم، ومختارات من شعر المقاومة السوفييتي بعنوان "أشعار مقاتلة" (بالاشتراك مع أبو بكر يوسف وماهر عسل).
سافر بعد ذلك إلى عدن ليعمل في جامعتها منذ عام 1978، ومنها إلى جامعة الجزائر سنة 1983 ليدّرس فيها سنوات عدّة إلى أن أصيب بفشل كلوي اضطره للعودة إلى القاهرة والعلاج في مستشفياتها حتى رحيله سنة 1990، تاركاً ديواناً ثالثاً كان يتهيأ لإصداره ومخطوطات قيد الطباعة.
رغم غلبة الغنائية والمناخات الوجدانية على كثير من قصائد عبد الرحمن، إلا أنه شكّل مع أبناء جيله نقلة نوعية في موضوعات شعر التفعيلة الذي كتبوه في تلك الفترة، في محاولة للتعبير عن التزامهم السياسي، لكنه في الوقت نفسه استطاع توظيف الموروث الصوفي والفلسفة اليونانية في عدد من قصائده،
ترك جيلي عبد الرحمن أثراً واضحاً لدى قرائه، بفعل حماسته وحرارة كلمته، ورفضه لجميع أشكال قمع الساسة وفسادهم، ما يفسّر إقامة المعتقلين في السجون السودانية حفلات تأبين بعد رحيله، مستذكرين قوله "إني أتعس من قوقعة يحملها أفريقي في الجيد/ وما أشقى الكلمات الجثث، الموت/ إن لم تتفجر في سجن الصمت".