جون- بيار فيليو: "كيف أُضيعت فلسطين، ولم تنتصر إسرائيل؟"

جون- بيار فيليو: "كيف أُضيعت فلسطين، ولم تنتصر إسرائيل؟"

02 ابريل 2024
مؤلف الكتاب جون بيار فيليو، 2011 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- جون-بيار فيليو يقدم في كتابه نظرة بنيوية للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي، مُسلطًا الضوء على استغلال إسرائيل للمكاسب وتحليل نقاط ضعف الجانب الفلسطيني.
- يُبرز الكتاب دور التواطؤ الغربي والخذلان العربي في ضياع فلسطين، مُشيرًا إلى الأخطاء الاستراتيجية للقيادات العربية المُرتهنة للأجندة الأميركية.
- يُقدم الكتاب رؤية تحليلية تُسهم في تنوير القراء حول السرديّة الإسرائيلية وتواطؤ الغرب، مُؤكدًا على أهمية إظهار السقوط الأخلاقي لإسرائيل وداعميها.

رغم شحِّ الدراسات الفرنسيّة التي تُعالج القضيّة الفلسطينيّة، فإنّ ما يُنجز منها عادة ما يلتزم المنهج التاريخيّ، وهو ما يُفضي إلى إنشاء سرديّة خَطيّة لا تستوعب بُنية هذه المسألة المُعقّدة التي لا تغني فيها المتابعة التطوُّرية إلّا قليلاً. هذا القصور هو ما سعى الباحث الفرنسي جون- بيار فيليو (1961) إلى تجاوُزه عبر العودة إلى هيكل القضيّة في كتابه الأخير: "كيف أُضيعت فلسطين ولم تنتصر إسرائيل؟: تاريخ صراعٍ، من القرن التاسع عشر إلى القرن الحادي والعشرين"، الصادر عن "دار سوي" في باريس. وفيه يستعيد النزاع الأقسى في عصرنا على ضوء مقاربة بنيويّة تُنظّم عناصرَه التكوينية.

ولتحديد هذه العناصر، يرى الباحث أنها تتوزّع حسب تقسيم ثلاثي لكلٍّ من نقاط الضعف والقوّة. وعليه، خصّص الجزء الأول من الكتاب لاستعراض عوامل القوّة الثلاثة لدى الكيان الإسرائيلي وهي: المكاسب التدريجية التي استغلّها لتثبيت سيطرته على الأراضي المحتلّة، ومنها استناده أيديولوجيّاً على الصهيونيّة ذات الجذور المسيحيّة وهي ذاتها التي يعتمد عليها قادة الغرب كمرجعيّة دينيّة. إلّا أنهم يضفون على هذه المُعتقدات البالية غطاءً من القانون الدولي يُبرّرون من خلاله فظاعات الاضطهاد الذي تقوده القوى الإسرائيليّة طيلة تاريخها الدموي، وهو ما أدّى إلى "نقطة قوّة" أُخرى سمّاها الباحث "استراتيجية الأمر الواقع"، أي فَرْض "إسرائيل" حقائق على الأرض تُوهم العالَم باستحالة الرُّجوع عنها، مثل الاستيطان الذي التهَم خريطة فلسطين التاريخية التهاماً.

يرى التعويل على حكّام عرب مُرتهنين خطأً استراتيجياً

وأمّا نقاط الضَّعف التي هزَّت أركان القضية وأَوهنت نسيجها فتتمثّل في تعويل شعبها على "الوهم العربي"، وهمِ التضامن والنجدة الفعليَّين، ما أوقعهم في خيبات قاسية بسبب خيانة بعض الأنظمة العربية القضيّة ومزايداتها على مصائر الفلسطينيّين، حتى وصل الأمر ببعضها إلى تقتيلهم من دون رحمة. ومن مظاهر الوهن، النزاعات الداخلية، أي ما حصل ويحصل بين الفصائل والمجموعات والأحزاب السياسيّة في الداخل الفلسطيني، من توتّرات واحتراب على امتلاك أحقّية الدفاع عن الأرض مع فرض كلّ فريقٍ منها رؤيته الأيديولوجية التي تتراوح بين العلمانية والدين، انقسامات أدّت بدورها إلى سقوط العديد من الضحايا. وأخيراً، تعرّضت فلسطين لوباء "الكيل بمكياليْن"، حيث أدّت مختلف المسارات الدبلوماسيّة التي قادتها "الأمم المتّحدة" والقوى الإقليميّة والدولية إلى إنهاك الشعب الفلسطينيّ وهضم جانبه. وخصصّ فيليو خاتمة الكتاب لاستعادة وقائع "طوفان الأقصى" وآثاره، إلّا أن إحصائياته توقّفت منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2023.

وهكذا، استعرض صاحب "مركز العوالم" (2021) هذه المظاهر المتداخلة عبر المنهج البنيوي مع ترتيب الأحداث ضمن منطقها التطوّري، ما يجعل الوقائع تتالى حسب جريانها في التاريخ، وهو ما قاده، في جُرأة غير معهودة، إلى تعديد الفظائع والفضائح التي ارتكبتها "إسرائيل" خلال العقود الماضية، متوسّلةً القوة العسكريّة تارةً وبجماعات الضغط والدعم الغربي أطواراً. لكن ما اعتُبر نقاط ضعف ما هو إلّا امتدادٌ للغطرسة الإسرائيليّة وتجلٍّ مختلف لنفوذها وتأثيرها كعامل إنهاكٍ. 

الصورة
فلسطين - القسم الثقافي

ولئن ركّزت هذه التحليلات على الأراضي الفلسطينية، فإنها استدعت بعض البلدان الأُخرى، كسورية والأردن ولبنان، وغيرها ممّن طاولها شرَر الاحتلال والظُّلم، ما يُشير إلى ترابط المسألة الفلسطينية بالوطن العربي مشرقاً ومغرباً، وتجذُّرها ليس فقط في وجدان الأمّة وإنما في جغرافيتها وتاريخها وأراضيها.

إلّا أنّ القناعة التي تُغذّيها هذه الاستعادة، من دون أن تُصرِّح بها، هي أنّ ضياع فلسطين نتَج عن تواطُؤ القوى الغربية أكثر من تخاذُل العرب، فهُم أنفسهم واقعون تحت الهيمنة الغربيّة. وسببُ وهنهم الأساسي التغوّل الأورو-أميركي الذي لم يترُك فرصة إلّا انتهزها لتضييع فلسطين وتقوية الكيان الإسرائيلي على أنقاضها. وكأنما ما يجري اليوم من إبادة يجري انتقاماً من هزائم جيوشه الصليبيّة التي تُحرّك الغربَ، عقيدة لاواعية مفادُها: تعود فلسطين لأيٍّ كان ولا تعود للمسلمين. جرح غائرٌ في ضمير الغرب تُؤجّجه عقائد دينية مسيحانية، بالكاد يحجبُها خطاب سياسي... فجٌّ وانتقائيّ.

رغم جرأة نقده إلّا أنه يتعامل مع "إسرائيل" كأمر واقع

وهكذا، يفضح هذا الكتاب عشرات المؤامرات والخيانات والألاعيب التي حاكها أساساً الغربيّون طيلة العقود الماضية، كما يستعيد جملة من حقائقَ معلومة لكنّها مطويّة عمداً، تُظهِر حجم التواطؤ الأميركي والأوروبيّ، ومن آثارها القاتلة ما نشهده اليوم من إبادة في غزّة أمام صمت البسيطة بأسرها. كما يُشدِّد المُؤرّخ الفرنسي على مظاهر الخذلان العربي التي تتالت منذ الخطوات التطبيعية الأُولى معتبراً هذا الخذلان أبرز نقاط ضعفها، ومن الخطأ الاستراتيجي، في رأيه، التعويل على بعض القادة العرب الذين لا يملكون قراراتهم بحُكم ارتهان وجودهم بالأجندة الأميركيّة في المنطقة.

ومع أنّ هذا الكتاب مُوجّه للجمهور الفرنسي، فهو يُضيء محطّات عديدة منسيّة في تاريخ "الصراع" (المشروع الاستعماري) الأمرّ في عصرنا. إلّا أنّ أسلوبه وأجهزته التحليليّة لا تخلو من بعض المواقف الذاتيّة والمفاهيم المُبهمة، فهو يصف مثلاً بعض مظاهر المقاومة بكونها "إرهاباً"، والمصطلح، رغم شيوعه، توصيف سياسي وليس قانونيّ، تُوظّفه الأطراف المتناحرة حسب غاياتها. كما "يُشرّع" الباحث نسبيّاً للحضور الإسرائيلي التدريجي بوصفه "أمراً واقعاً"، وليس باعتباره، وهذه الحقيقة، جرائم احتلال بتفريعات ودرجات مختلفة (انتداب، استعمار، اغتصاب للأراضي، طمس للثقافة، وإبادة منهجية...).

ومع أنّ الكثير من المعلومات الواردة في هذه "المحاولة" متاحٌ للقارئ العربيّ ومألوف لديه، فإنّ عرضها حسب المنهج البنيوي يُسهم في تنوير الجمهور الفرنسي الواقع تحت براثن السرديّة الإسرائيليّة التي تتبنّاها بشكل كبيرٍ السياسة الرسمية. وأضعف الإيمان أن يسلّط الضوء على ما لا يُعرَض في وسائل الإعلام وعلى ما لا يُقال في القنوات الرسمية.

لم تضع فلسطين ولن تضيع من ضمائر الشعوب العربية، مهما أغرق قادتُها في الخذلان والتطبيع، لأنها قضيّة عقيدة وأرض تكتنفها القداسة وستظلّ حيّة في الوجدان العامّ. وإن خبا ألقُها مؤقّتاً فَلِيعود من جديد بمُعجزات صمودٍ تُنسي نقاط الوهن جميعها. ولم يضع ما ضاع من فلسطين بتقصيرٍ من أهلها، بل أُضيعَ باستكبار أعدائها الذين داسوا على أبسط قواعد القوانين الدوليّة والقيم الأخلاقيّة التي ما فتئوا يُنظّرون لها. كما لم تنتصر "إسرائيل" في هذه المعركة مع أنّها كسبت بعض حروبها، بل إنّها انهزمت بسبب الشرّ المُطلق الذي تُمارسه على الأبرياء. ولذلك ستفشل كلّ المقاربات، أكانت تاريخيّة أم بنيوية، ما لم تسعَ إلى إظهار السقوط الأخلاقي لهذا الكيان وللغرب الذي يقف وراء الاضطهاد والطمس والتقتيل. ستكون مثل هذه الكتب مجرّد امتداد للمَحكيّة الظالمة ما لم تنتقدها وتُظهر تهافتها عبر وقفة أخلاقية - سياسية لا تلين ولا تماري.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون