جورج قرم.. قراءة ملتزمة للتاريخ المُعاصر

16 اغسطس 2024
جورج قرم، نيسان/ إبريل 1997 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- جورج قرم كان مفكراً شاملاً نشر 27 كتاباً تناولت الاقتصاد والسياسة والتاريخ، وركز على العوامل المادية في تحريك التاريخ العربي.
- اعتمد على خبراته المهنية والسياسية لفهم التوترات في الشرق الأوسط، محللاً تأثير الهويات الإثنية والطائفية والحروب العالمية، ودرس الفسيفساء اللبنانية.
- ركز في السنوات الأخيرة على تفكيك مظاهر التشظي في الشرق الأوسط، معتبراً أن المعيقات الطائفية والتدخل الأجنبي منعت اكتمال النهضة، واتسمت تحليلاته بالواقعية التاريخية.

يعرف البعضُ جورج قرم، الذي غادر عالَمنا المتشظّي أوّل من أمس، خبيراً اقتصادياً يرسم السياسات المالية ويُحدّد توجُّهات البنوك. لكن كفاءات الرجُل الفكرية أبعد من ذلك بكثير، لأنّها تشمل وعياً دقيقاً بوضع الدول المُعاصرة والصراعات التي تهزّها من شرقها إلى غربها. وعي ترجمه بنشر 27 كتاباً تناولت مواضيع مختلفة بين الاقتصاد والسياسة والهويات والفكر والتاريخ. ذلك أنّه، وبفضل تكوينه في معهد العلوم السياسية بباريس بين سنتَي 1958 و1961، ثمّ بفضل أطروحة الدكتوراه التي أعدّها في مجال القانون الدستوري وما لحقها من أبحاث قانونية، تمكّن من صياغة رؤية وضعية للواقع العربي، تُقرّ أكثر بفعل العوامل المادية في تحريك التاريخ، ولا سيما في الحِقب الراهنة؛ حيث هيمنت العوامل المادية على حركة التاريخ ووجّهت سياسات الدول وخياراتها.

فبالاعتماد على خبراته المهنيّة وطبيعة المسؤوليات السياسية والإدارية التي تحمّلها لعقود، كالوزارة والريادة في البنوك، فهِم الرجُل ما يجري في عالمنا المعاصر من توتّرات وصراعات، ولا سيما تلك التي تتواجه فيها ضفّتا المتوسّط، شمالها وجنوبها. فبفضل تجربته الطويلة، انكبّ على دراسة "الشرق الأوسط الرهيب" ومعضلاته، محلّلاً كيفيات إدراك ما يجري فيه من صراعات عبر توظيفٍ للهويات الإثنية والطائفية، دارساً الآثار العميقة للحربَين العالميّتَين في تقسيم هذا الشرق وتفتيته إلى دُويلات مصطنعة، تلعب فيها الهويات الدينية دوراً محورياً يكاد يمنع أيّ مسار إصلاحي أو تحديثي.

كما شملت تحليلاته الثورات العربية منذ اندلاعها، قارئاً مساراتها، وحتى متنبّئاً بما ستُسفر عنه. وبديهيٌّ أن تنال الفسيفساء اللبنانية نصيب الأسد من أبحاثه، فقد وصف بشكل موضوعيّ تركيبة هذا البلد العميقة قانونياً واقتصادياً وبشرياً، وهي التي أضفت عليه ذاتيةً مخصوصة، جاعلة منه كياناً فريداً. ولكنّ تحليلاته لبلده تصدق بنفس القوّة على سائر دول المشرق العربي بحُكم وحدة التركيبة الديمغرافية وتشابُه التقاليد السياسية والاجتماعية، ثمّ بحُكم خضوعها إلى نفس التأثيرات الخارجية ووباء الاستعمار.

وفاءٌ لقضايا الوطن العربي وعلى رأسها قضية فلسطين

وقد خصَّص صاحبُ كتاب "حكومة العالَم الجديدة" (2010) السنوات الأخيرة، وربما الأخصب من حياته، لتفكيك مظاهر التشظّي، التي أطلق عليها مصطلح "البَلقنة"، وهي تلك التي أصابت "الشرق الأوسط" في مقتل، فحوّلته إلى كيانات متجاورة، لكن لا صلة عميقة تربط بينها، رغم القواسم المشتركة التي تجمعها، محاولاً فهم الأسباب العميقة التي تقف وراء هذا التصدُّع الذي حال دون تحقيق أيّ تنوير ذهني أو تقدُّم دوْلتي في إدارة الشؤون السياسية لبلدان المنطقة، فكلّها تعيش حالةً من الانفصام بين ماضٍ قبلي- ديني وبين تطلّعات علمانية لا تكاد تتحقّق.

ولذلك، كان سؤال الحداثة مهيمناً على تفكير قرم، خلفيةً ثابتة، فقد دارت جلُّ تحوّلات المشرق العربي على تحديد "أقوم المسالك" في تحقيق النهضة والتحرُّر من نير الانحطاط الذهني الذي سَدَر فيه الوعي العربي لقرون مضت؛ فقد اعتبر في كتابه الموسوم "أوروبا والشرق" (2003) أنّ الحداثة التي اجتُرحت لم تكتمل بعدُ بسبب المعيقات الطائفية والتدخّل الأجنبي الأوروبي والأميركي، فضلاً عن زرع كيان غاصب أهدر مقدّرات الدول المشرقية وأدخلها في دوّامة حروب ونزاعات لا تنتهي، عانت شعوب المنطقة منها الأمرَّين ولا تزال.

وقد اتّسمت تحليلاتُ جورج قرم بمنهج الواقعية التاريخية، ترجمةً منّا لما أطلق عليه في كتبه عبارة Analyse séculière التي تعني، على وجه الدقّة، قراءة الراهن العربي ومتغيّراته وتحليلها في ضوء العوامل المادية الدنيوية التي تتشابك فيها مصالح الاقتصاد بتدافع الأيديولوجيات ضمن بُنًى ديمغرافية محدَّدة. وهو بذلك يرد على التحاليل المثالية التي سادت طيلة النصف الثاني من القرن العشرين، بعد انحسار الماركسية؛ أبحاثٍ ضخّمت البُعد الديني والفكري على حساب دواليب الإنتاج الدنيوي وآليات التفاعل بين القوى السياسية وأسلحتها الملموسة.

ويُعد هذا في حدّ ذاته قطيعةً منهجية، أكّد من خلالها أولية العوامل الوضعية، القابلة للتوصيف والتحليل، على حساب النظر الأخلاقي أو الأيديولوجي الذي يحجب المعرفة النقدية بما يحيط بنا من العوامل. فتاريخه تاريخ صراعات دنيوية ملموسة، تجري على أرضية تاريخية بنزاعاتها المرئية، لا تاريخ أنساق مُجرّدة تتبارى في أذهان الملاحظين من مستشرقين ومستعربين، وبعضهم لم تطأ أقدامهم تلك الأرض.

وبما أنّ الرجل قد فضّل الكتابة أساساً بلغة موليير - وهذا أيضاً اختيار ثقافي - فإنّه أهدى المكتبة الفرنسية العديد من المَراجع، ملتزماً فيها ببيان تعقُّد مكوّنات الوطن العربي الذي لا يزال يُختزل لدى المثقّف الفرنسي، ناهيك عن القارئ العادي، إلى صوَر نمطية، ويُقتَصر في معرفته على ما فاض من غُلواء المركزية الأوروبية بما فيها من تشويه وتلفيق وإسقاط.

ظلّ سؤال الحداثة مهيمناً على تفكيره كخلفية ثابتة

فقد كافح جورج قرم، ولا سيما في محاولاته التاريخية والجيو- سياسية، ضدّ القراءات التبسيطية، مبرهناً على مدى تشابُك المكوّنات في أدنى مجتمع عربي في ذلك الشرق، وإيغالها في مَدَيَات التاريخ وتحولات الحاضر: فجغرافيته الطبيعية والبشرية فسيفساء ثرية، تاريخها أصوات وذاكرات لا منتهى لأصدائها في منازعات السياسة ودورات الاقتصاد.

ما الذي يمكن أن يُحفظ من هذه المسيرة الطويلة؟ القراءة الملتزمة الدنيوية للتاريخ المُعاصر مع الوفاء لقضايا الوطن العربي، وعلى رأسها قضية فلسطين. أثار قرم هذا السؤال الخطير سنة 2019: هل يمكن أن نكون معتدلين في شأن الدفاع عن فلسطين؟ وأجاب بالنفي القاطع بالنظر إلى فظاعة الإجرام الإسرائيلي الذي لم يتوقّف من عقود. ولا نظنّ إلّا أنّه أصرّ على رأيه بعد هذا الذي جرى منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023. وهو ما يومئ إلى التطابق الأمثل بين الوعي التاريخي التي تشرّبه عبر عمله الثقافي وحتى الفنّي والالتزام السياسي.

ولعلّه لا يُؤاخَذ إلّا على ثقته المفرطة في الغرب وفي إمكان التقارب الذهني بين ضفّتي المتوسّط، ولا نخاله حافظ على هذه الثقة بعد السقوط المدوّي للغرب، ولا اسم لمواقف هذا الأخير وأفعاله غير "السقوط". "شرخ العالَم" الذي وصفه منذ سنوات هو حرب غزّة، لا ما عداه من التصدّعات والشروخ.

جورج قرم المثقف لا تقتصر اختصاصاته على الفكر والتاريخ، بل كان "متخصصاً" في الموسيقى الكلاسيكية، إلى درجة أن عارفيه كانوا يصفونه بأنه melomane. المفكر والسياسي والمثقف والاقتصادي جورج قرم كان طموحه في شبابه بأن يصبح عازف بيانو.

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون