لم يكن التعب، في الثقافات القديمة، سؤالاً مركزياً، سواء على مستوى الفكر أو في العلاجات الطبّية. صحيحٌ أنّه كان قضيّةً يهتمّ بها الأطباء؛ مثل أبقراط الذي وصفه بأن "أقرب الجيران إلى المرض"، إلّا أنه ظلّ اٌعتبر حالة جسدية طبيعية، مثلها مثل النوم، يحتاج إليها الجسد، لأنه لا يستطيع أن يبقى في حركة وفعْلٍ دائمين، كما رأى أرسطو في كتابه "علم الأخلاق إلى نيكوماخوس".
في يومنا هذا، لم يعد التعب جاراً للمرض، بل صار مرضاً قائماً بذاته، وفيه تفرُّعاتٌ عديدة، فضلاً عن كونه عارضاً أساسياً للكثير من الأمراض. مقابل هذا التوسّع للظاهرة الفيزيولوجية، ثمّة توسُّعٌ معجميّ: فحقل التعب، معجمياً، يبدو لنا اليوم أوسع من أي وقتٍ مضى، خصوصاً وأنه بات يشمل ظواهر تجمع بين الجسدي والنفسي، كالضغط، أو التوتر، على سبيل المثال.
عن منشورات "صفحة 7"، صدرت حديثاً، بترجمة محمد نعيم، النسخة العربية من كتاب "تاريخ التعَب: من العصر الوسيط إلى أيّامنا هذه" للأنثروبولوجي والمؤرّخ الفرنسي جورج فيغاريلّو. ظهر الكتاب في الأصل الفرنسي عام 2020، وفيه يتابع المؤلّف أبحاثه في تاريخ الجسد والحواس، عبر تدوين التغيّرات التي طرأت على فهمنا للتعب، وعلى توسُّع المفهوم بشكل عام، وتقلُّبه بين مرحلة تاريخية وأُخرى.
ففي العصر الوسيط، بأوروبا على الأقل، كان التعب رديفاً للفقد: ليس الفقد بمعنى خسران عزيز ما، بل بمعنى أن الجسد يفقد شيئاً من طاقته وبنيته، وهو ما كان يلاحظه الناس في ظواهر التعرُّق أو خمول العضلات أو نحف الجسد. هذا الفهم "السائل"، إذا صحّ التعبير، للتعب، يُحال إلى طريقة فهم القدماء للظواهر الفيزيولوجيا بوصفها خلائط من سوائل تتحرّك في الجسد.
في الوقت نفسه، كان يمكن لعلامات الإنهاك أن تتحوّل إلى موضوع فخر في فترة ما قبل الحداثة، ولا سيّما عند المحاربين، الذين يتنافسون على مَن يصمد أمام التعب أكثر من غيره.
والأمرُ نفسه لم يكن مختلفاً كثيراً حينما يتعلّق الموضوع بالرحلة، التي يذكّر المؤلّف، استناداً إلى العديد من نصوص الرحلات، بالنظرة الإيجابية التي يتمتّع بها التعب في هذا السياق، حيث يبدو إنهاك الجسد حاجةً ضرورية لراحة النفس.
مع الحداثة، سيدخل التعب في علاقة ثنائية لن يخرج منها حتى يومنا هذا: أي ارتباطه بالعمل؛ وهي ظاهرة لم تكن حاضرةً بالضرورة قبل الثورة الصناعية، خصوصاً وأنّ تقسيم الوقت والنحو الذي ينقضي من خلاله النهار كانا مختلفين. أمّا مع العهد الصناعي، فقد بات أصحاب رأس المال يتحدّثون عن الحاجة إلى "قوى عاملة"، وعن "سواعد مشدودة" وغيرها من العبارات التي تُحيل إلى حاجة أنَّ المطلوبَ هي أجساد تتحمّل الإرهاق والتعب، وتنافس الآلات في صمودها.
غير أن الجميع يعرف إلى أين قاد هذا الفهم: ليس فقط في ما يخص الإتيان على موارد الكوكب وخلخلة اتزانه البيئي والجوّي، بل وكذلك في ما يخصّ تشغيل الأطفال، وموت العمّال والعاملات المبكّر، وحالات الإرهاق المفرط والكآبة التي لم يكن من سبب مرضي ليشرحها (سوى التعب). فهمٌ "ماكينيّ" للجسد سيُتوَّج في وقتنا الراهن بظواهر التوتّر، والأرق، والإرهاق المزمن، إلى جانب الانشغال النفسي بسبب المسؤوليات أو التعب المفرط بسبب العمل، وهي جميعاً من الخانات المرضية التي باتت معروفةً لدى المشتغلين في الصحّة الجسدية والعقلية في يومنا هذا.
يعرّج جورج فيغاريلو على كل هذا ويشرحه، كما يتوقف عند عشرات الموضوعات الفرعية والتطوّرات التي رافقت التغيّرات في فهم البشرية للتعب، منذ فرض العطلة والإجازة أو ابتكار الورديات إلى اكتشاف دور المشروبات المنبّهة (القهوة) في المساعدة على مقاومة الإنهاك، ومروراً بتعب الطبقات الكادحة وقلّة متوسّطها العمري مقارنة بالأغنياء الذين لا يُضطرّون للعمل بأيديهم.