نجحت ندوة "الرواية العربية: قيمة الجوائز ومعايير التحكيم" في "معرض الدوحة للكتاب"، مساء أمس السبت، في تقديم تنويعات على مقام موسيقي واحد. والأمر ليس سيّئاً ولا جيّداً إلّا بحسب السياق. فإذا كان المتحدّث ممثّلاً لفريق، أو المتحدّثون يجمعهم فريق واحد، هذا مؤسّس الجائزة، وآخر ناطقها الإعلامي، وذاك رئيس لجنة تحكيمها، فإنّ عنوان الندوة يبدو مناسباً، ليحكي لنا عن "قيمة الجوائز"، و"معايير التحكيم" بما يُشبه عَرْض: "من نحن؟" الذي نُطالعه في المواقع الإلكترونية.
قد لا يبدو هذا عادلاً بالنسبة لنا نحن الكُتّاب، والصحافيّين، والروائيِّين الحالمِين والخاسرِين والمتربِّصين والناقدِين والمراقبِين، وكتّاب القصة الذين يربّون قصصهم القصيرة لتصبحَ طويلة وروائية، والشعراء الذين قرّروا إغلاق الدفاتر، وعدم دفع المال للناشر، وبدل أن يشكّلوا الكون في مئة كلمة ضربوا المئة بألف فصاروا روائيّين، وأخيراً وليس آخراً القرّاء الذين يريدون الاستماع لطرفَين على الأقلّ، حتى يفهموا مَن أخطأ بحقّ مَن؟
صوت آخر
كان لا بدّ من صوت آخر يحتكُّ دون أن يدّعي امتلاك الحقيقة. فما يحمي الحقيقة من المُصادرة هو الاحتكاك، الذي نتمنّاه دائماً كما قال الشاعر محمود درويش "اصطدام وردتين". حتى باب النقاش الذي هو فلكلور يسعد به أيُّ مدير ندوة أُقفل، ولمّا سألت "العربي الجديد" مديرة الندوة سمارة القوتلي، قالت إنها أُبلغت بعدم توافر سوى خمس دقائق.
احتكر الضيوف منطق الدفاع عن الجوائز دون أي ملاحظة نقدية
عليه جاءت الندوة بثلاثة ضيوف مارسوا حقّهم في الدفاع عن الجوائز، أو على الأقلّ ليس لديهم ولو ملاحظة واحدة تجاه أيّ خلل في أي بنية لأي جائزة في أي مكان من المحيط إلى الخليج، وهم خالد السيد المشرف العام على "جائزة كتارا للرواية العربية"، والروائي الجزائري واسيني الأعرج وله خبرة واسعة في عضويات لجان التحكيم، وزهران القاسمي الفائز بـ"جائزة البوكر العربية" الشهر الماضي.
لربما كان واسيني الأعرج الأقرب إلى ملامسة سريعة للجوائز، حين قال إنها تقوم مقام النقد. "فالنقد بصراحة فاشل من هذه الناحية"، لماذا؟ هو يقول إنه يوجد نقّاد كبار وأكاديميون، ولكن لا يوجد ناقد عربي استطاع أن يدفع باسم ما، وأن يضعه في الواجهة، بينما في العالم الغربي يلعب النقد دوراً حاسماً في التعريف بالنصوص والكتّاب. الجوائز، بهذا التقييم من عنده، سدّت النقص من الناحية الأدبية والثقافية.
حادث عرضي
لا يوجد ناقد واحد على المنصة، ولا نعرف إنْ كان موجوداً بين الجمهور، حتى نسمع منه حول الجوائز أو بشأن وضع الكاتب والمثقف، ما دام الأعرج خطا خطوة باتجاه النقد في العالم الغربي ومقابله في العالم العربي، ثم تراجع إلى نقطة الضوء المفضّلة التي ليست محلّ اعتراض عند كثيرين مثل قوله إن "الجائزة حادث عرضي، ولحظة مُضافة وجميلة تسمح للكاتب بأن يتخطّى الكثير من العقبات".
هذا جيد، حتى عبارة "الكثير من العقبات" فهي شأن سجالي علينا الانخراط فيه، وتركُ الجوائز لتعبّر عن ذاتها في مواقعها الإلكترونية، بدل القول إنها "لا تحمل عداوة بل محبة". هذا شغل الناطق الإعلامي وليس شغل الكاتب والمثقف.
ووفق ما قال فإن الجوائز توفّر مساحة يصدر فيها ما بين ألفين وثلاثة آلاف رواية سنوياً، فمن أين يجد القارئ وقتاً لقراءتها؟ يتساءل، ويقرّر أنه لولا الجوائز التي تنتقي روايات في قوائمها فإن القارئ يضيع في هذا البحر من الإصدارات.
تبنّى الأعرج "مقولة" أنّ الجوائز حلّت محلّ النقد ووظيفته
هذا يعني أن مقولات الأعرج ستذهب في اتجاه واحد: قارئ حدّدت الجوائز ذائقته، وكاتب عليه الدخول إلى أي جائزة بِنيّة الكتابة لا التسابق، ومن يفوز "نقول له مرحباً ومن لم يفُز عليه أن يفرح لغيره ويواصل رهان الكتابة والحلم".
وهذا في الإطار استوجب من الروائي الشهير، أكثر من مرة، تقريع الكتّاب والكاتبات الذين يشاركون واضعين نُصب أعينهم الفوز خاضعين لما سماه "أفق الانتظار الوهمي"، ووسائط الإعلام التي "تلعب دوراً مدمّراً في بعض الأحيان"، ما يؤدّي إلى "مشاهد جنائزية من البكاء والانهيار العصبي"، ملخّصاً في جملة أنّ "ضرب الجوائز غير موضوعي، ويدل على شيء من التخلّف الذي يحكم علاقتنا بها". ولولاها - أي الجوائز - لبقيت الأسماء في النكران، دون أن يعني ذلك حُكماً بالجودة وعدمها بل حكم قرائي تحكمه الذائقة، كما أن الجوائز اختصرت المسافات العربية، كما خلُص.
وهذه الجوائز التي تدلّ القرّاء على ما تيسّر من كتب يقرؤونها. ليس مسموحاً على المنصة سوى الإعجاب بها، ولكم سيبدو ناشزاً أن نقيّم تظاهرة (لا مظاهرة) تنادي بدعم سعر الكتاب في الوطن العربي كما يُدعم الخبز، وفي جعل القراءة متطلّباً مدرسياً ضمن تقييم الطالب، وفي رفع سيف الرقابة.
كلّ هذا وهو أقل من النزر القليل الذي يشغلنا، يجعل من مؤسسات الجوائز في البلاد العربية عرساً ثقافياً، يشبه العرس الديمقراطي ولا ديمقراطية، ويجعل منها مناسبة موسمية ليست مشتبكة مع ثقافة المجتمع قدر عنايتها بالأعطيات.
دعاية
أما خالد السيد فرأى أنّ ما وُجِّه من انتقادات صحافية، وعلى مواقع التواصل تجاه قائمتَي الروايات المنشورة وغير والمنشورة اللتين تضمّان 120 رواية، "دعاية" للجائزة بالقدر الذي تتقبّل فيه "كتارا" الانتقادات وتأخذها بعين النظر، وفق قوله.
احتوت الندوة على آراء نقدية إلّا أنه لم يُشارك فيها ناقد واحد
ويقصد السيد التغيير الذي طاول "جائزة كتارا" اعتباراً من دورتها التاسعة 2023، عبر إصدار قائمتين اختُيرت من 1491 رواية منشورة وغير منشورة. كل قائمة تتكوّن من ستين عملاً، وفي شهر أيلول/ سبتمبر يجري الإعلان عن تسعة مرشّحين من كلّ قائمة، يُختار منها ثلاثة فائزين، يعلن عنهم في تشرين الأول/ أكتوبر خلال احتفالية الجائزة ضمن "أسبوع الرواية العربية" برعاية اليونسكو.
هذه الآلية الجديدة برّرها السيد بـ"أننا لا نستطيع أن ننتظر عاماً كاملاً لمعرفة النتائج وخاصة بما يتعلّق بالروايات غير المنشورة". وأضاف أنّ كثيراً من الأشخاص الذين اختيرت مخطوطاتهم الروائية اعتذروا لأنهم نشروها. فكان لا بد من فترة زمنية في منتصف العام بعد فرز الأعداد الكبيرة الروايات اختيار قائمتين ستعاينهما لجان التحكيم.
وخلال السنوات التسع الماضية (تأسست "جائزة كتارا" عام 2014): "أصبح لدينا خريطة للرواية العربية في المغرب العربي وبلاد الشام ومصر والسودان ودول الخليج"، كما أوضح. وبالنسبة له وبما يعكس بعض عنوان الندوة "قيمة الجوائز" فإن الدعم المالي يستحقه الفائزون، مشيراً إلى أن الرواية ليست أقل شأناً من الجوائز الفنية والرياضية.
وكان زهران القاسمي الضيف الثالث مثالاً حيّاً على التقدُّم بمخطوط ثم سحبِه، إذ قال إنه أرسلها إلى "كتارا" ثم إلى دار نشر وقد أعجبتها الرواية، فما كان منه إلّا أن خاطب "كتارا" ساحباً إيّاها من المشاركة، لتتقدّم بها بها الدار إلى مسابقة "بوكر".
وبحسب قوله فإن روايته "تغريبة القافر"، وجدت مقروئية قبل الفوز، لكنّ الجائزة عزّزت من الالتفات إليها، لافتاً إلى أن منصات القرّاء على مواقع الإنترنت "أقرب للكاتب من الدراسات النقدية"، وهذا رأي يمكن إضافته إلى سجال آخر ما دام واسيني الأعرج يرى غياباً فاعلاً للنقد. فهل مجموعات القرّاء التي تُقيمها دُور نشر وناشطون بأسماء وهميّة أحياناً، على مواقع التواصل، يُمكن أن تشكّل مساحة يُعتدّ بها وتمنح شرعية لكاتب؟ وهل هي الوسائط ذاتها التي قال الأعرج منذ دقائق إنها تلعب دوراً مدمّراً؟