يضع فيلم "جنّيات إنيشرين" الأيرلندي، الصادر مؤخّراً، مُشاهدَه في ساعة تأمّل للتاريخ والمصائر الشخصية، والهجاء، والملهاة المأساوية، وفتنة الاستعارة.
هذا هو المُخرج مارتن ماكدونا، والكاتب المسرحي أيضاً، يختار الريف الغربي من بلاده ليُقيم عليه جزيرةً معزولة، وليُطلق منها نصاً لا يبدو غريباً على أيّ واحد منا، ولكنّه أحسن الصنعة وهو يبدع السؤال الاستنكاري الجارح "لماذا تجري الحياة هكذا؟"، يرافقه ساقاً بساق، سؤالٌ ساخر "لماذا لا تجري الحياة هكذا وهي بطبيعتها عظيمة وفاجرة".
الشاذّ الإبداعي
من داخل هذا المكان باذخ الطبيعة، صوتٌ يستعيد به المُخرج صوتاً آخر منفيّاً بالاختيار إلى الخارج، وهو لمواطنه جيمس جويس، أحد أعظم الروائيين في التاريخ، الذي رأى في الشاذّ الإبداعي ما يجعلنا أقرب إلى الواقع، وأن المأساة عليها ألّا تُفقدنا قدرتنا على الضحك والسخرية.
ساعة لتأمّل التاريخ والمصائر الشخصية وفتنة الاستعارة
لهذا حين قطع عازف الكمان كولم (بريندان غليسون)، إصبعه وبعد أيام قطع أربعة أُخرى، لم نكن في فيلم "جنّيات إنيشرين" أمام مأساة موسيقي فشل بأن يحفر اسمه ويترك أثراً مثل موزارت وبتهوفن، فقرّر في لحظة يأس التخلّص من أصابعه.
لبُّ المسألة
كان الرجل يهجم بمقصٍّ ويقطع الإصبع لسببٍ غير منطقي، وهو أنه يُعاقب صديقه المُملّ بادريك (كولن فاريل)، ذا الثقافة المحدودة، كما بات يراه، والذي يصرّ على معرفة سبب قراره بقطع العلاقة، ويذكّره بأنه كان في الأمس يحبّه، فيردّ الآخر بأنه لم يعد يحبه.
ما هو غير منطقي إذاً هو لبّ المسألة، هو الشاذّ الإبداعي الذي حدّثنا عنه جويس. وعليه كان ينبغي أن يهدّد كولم الموسيقي صديقه بادريك الذي صار مُمِلاً بأن يكفّ عن إزعاجه، وإلّا سينال منه، لأن ما لديه من العُمر قليل، ويريد استثماره ليؤلّف موسيقى تخلّد اسمه.
ولأيّ منّا أن يطلق على قطْع الأصابع وصف الحماقة، إذ كيف سيعزف الرجل من دونها؟ وقد تأخذنا التفسيرات إلى أنّ من يعاقبون أنفسهم يلحّون على استدرار الرعاية، كأن يكونوا من مرضى القلب أو السكّري وتلاحقهم عائلاتهم كي يلتزموا بالتعليمات ويتجنّبوا الحلوى والسجائر، أو لتبرير الفشل في حالة كولم الموسيقي، الذي سيحيل عدم اكتمال مشروعه الفني على صديق مملّ يشغله كل يوم بنقاشات سخيفة.
استعارة
في أيّ وجهة أخذناها، سيجرنا الفيلم إلى تأمّل هذه الاستعارة من الحرب الأهلية، إذ تدور الأحداث في عام 1923، إبان اقتتال الإخوة من القوميِّين الذين يريدون الاستقلال عن التاج البريطاني، ومقابلهم من ارتضوا حُكماً ذاتياً سيتطوّر إلى صيغة أفضل في المستقبل.
لقطاتٌ سيّالة بعيدة عمّا تسببه المأساة من قَطعٍ حادّ
هؤلاء إخوة بالمعنى القومي الأيرلندي والطائفي (كاثوليك)، وهم الأغلبية مقابل أقلية بروتستانتية موالية للتاج. لا نرى حرباً في الجزيرة المعزولة، إلا أن أصوات الرصاص تأتي من بعيد. وهذه الهجائية السينمائية الساخرة، ومشاعر الضياع وفقدان المعنى، تتسرّب عبر كلمات بادريك حين يمرّ وحيداً ويسمع صوت الحرب، ويتمتم داعياً بالتوفيق للمقاتلين مهما كانت قضيتهم التي يطلقون النار من أجلها.
بادريك
بادريك في دور استثنائي خلال مسيرته مزيجٌ من التهوّر والذكاء والشجاعة والبساطة، وهو محبّ لصديقه كولم، ولجحش صغير يربّيه، ويسمح له بالدخول إلى البيت رغم اعتراضات شيوبان (كيري كوندون)، الشقيقة الجميلة حادّة الطِّباع.
سنعاين ما يلي: الحرب الأهلية مشتعلة خارج الجزيرة المعزولة ولا نراها. الجنّية في الخرافات الأيرلندية تجسّدها امرأة عجوز تُنذر بموتٍ قريب قادم، يتمثّل في انتحار الشاب دومينيك (باري كيوغان)، الشهواني الطيّب خفيف العقل.
بادريك لا يكفّ عن ملاحقة كولم، ليعودا كما عرفهما كلّ الناس صديقين دائمي الجدال ولا يفترقان. كولم يقطع أول أصبع ويرميه على باب صديقه، ثم يقطع أربعة أصابع دفعة واحدة. الجحش يأكل إصبعين فيتسمّم ويموت. يُفجَع بادريك الذي سيذهب إلى صديقه وعدوّه الآن، ويبلغه بأن غداً وبالتحديد عند الساعة الثانية بعد الظهر، سيحرق بيته.
النص بطل الفيلم الأول إذ جعل الممثّلين يتحدّون أنفسهم
وعند قولِ كولم إنه لم يقصد قتل الجحش، وفوق هذا هو منكوب بفقده خمسة أصابع، يردُّ بادريك بأن حرق البيت لن يكون عادلاً، العدالة أن يحترق وكولم داخله، ما عدا كلبَه الذي اعتبره صديقاً ينبغي إبعاده عن الصراع.
في الأثناء سيكون رجل الشرطة الدنيء بيتر كيرني (غاري ليدون)، مدعوّاً لتنفيذ أحكام إعدام بالرصاص مقابل مبلغ ووجبة طعام دون أن يعرف هوية المحكومين.
سرد متداخل
الفيلم في الجملة سردية مُتداخلة جعلت رؤية الأصابع المقطوعة بعيدة عن الفرز العاطفي، وهذه هي لعبته حينما تسيل اللقطات على بعضها لتجعل المُشاهِد بعيداً عن القطع الحادّ الذي يجعله تحت وطأة المأساة.
فالموسيقيُّ يواصل العزف من دون إصبع واحد أول الأمر، ثم يدور النقاش بين شقيقة بادريك وبينه حول الملل في جزيرة مُمِلّة أصلاً، وأنه مصاب بالاكتئاب، كأنّ قطع عضو من الإنسان جملةٌ معترضة نكمل بعدها الكلام، أيّ كلام.
أدرك الكاتب أن على الحوار أن يأخذ من الشعر مقداراً
بل إن غياب الأصابع الأربعة الأُخرى لم يؤثّر على المساجلة بين الصديقين في الحانة: بادريك الذي يدافع عن قيمة اللُّطف الباقية إلى الأبد، وكولم الذي يزدري هذه القيمة، ويقول إن الإبداع هو الباقي. التاريخ لا يتذكّر اللُّطفاء، بل أصحاب البصمة والموهبة.
البطل الأول
البطل الأول في الفيلم هو النص الذي جعل الممثّلين جميعهم يتحدّون أنفسهم، ليكونوا على قدره، وهو القادم من خبرات كاتب مسرحي يدرك أن الحوار النثري عليه أن يأخذ من الشِّعر مقداراً قليلاً يجعله يُحلّق على ارتفاع منخفِض، فإذا زاد عن حدّه أصبح كمن يسبح في بركة زيت.
نجح الممثّلون في تجسيد نصّ جَسور يعرف أن مجال قراءة الحياة مثلما احتاج إلى سقراط، احتاج أيضاً إلى أريستوفان، وأن الزمن الحديث لم يخرج عن مسرح الإغريق سوى أنه بات أكثر تركيباً، منحنا السينما لتُرينا بعض ويلاته.