جمال حمدان.. مذكّرات الجغرافي في عزلته

20 يونيو 2022
جمال حمدان في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

في ليلة السابع عشر من نيسان/ إبريل عامَ 1993، عُثر على جثّة احتُرق نصفها السفلي داخل شقّة تقع في شارع أمين الرافعي بحيّ الدقّي القاهري. حادثة ظلّت لغزاً لم تُكتشف حقيقته حتّى اليوم، خصوصاً بعدما أشار تقرير وزارة الصحة المصرية إلى أن صاحب الجثة، الجغرافي المصري جمال حمدان (1928 - 1993)، لم يفارق الحياة بسبب اختناق بالغاز أو احتراق مطبخه.

وقائع غامضة تضاعفت الشكوك حولها بسبب اختفاء ثلاثة مخطوطات من مكتبته الخاصّة كانت في طريقها إلى النشر، وكان واحدٌ منها حول الصهيونية واليهود، دون أن ينال الحرق أيّة مؤلّفات أُخرى فيها، حيث رُفعت أصابع الاتّهام إلى "الموساد"، لكنّ التحقيقات توقّفت بسبب غياب الأدلّة، ما منح صاحب كتاب "شخصية مصر" بُعداً أسطورياً يضاف إلى حياة عاشها على الهامش بعيداً عن الأضواء.

قرّر حمدان ترْك عمله مدرّساً في "جامعة القاهرة" عام 1963 بسبب تعاظم إحساسه بالظلم، تأخير ترقيته للأستاذية وحصول زميل آخر أقلّ كفاءة عليها، فانسحب من الحياة الأكاديمية والعامة إلى عزلته التي امتّدت لثلاثة عقود، وأتى ذلك بعد فشله في علاقة عاطفية عاصفة عاشها خلال دراسته في "جامعة ريدنغ" بلندن لنيل درجة الدكتوراه في الجغرافيا، ليعيش عازباً حتّى رحيله.

خلفية أساسية لا يمكن الاستغناء عنها عند دراسة سيرة رجل بدت عليه علامات الاختلاف والتفرّد وهو لا يزال على مقاعد الدرس. وهو ما ظهر مبكّراً، منذ إلقائه محاضراته الأولى في الجامعة مطلع الخمسينيات، حيث بدا مهموماً بانشغالاتٍ رأى أنها من صلب تخصّصه الأكاديمي، تتعلّق بالبعد الحضاري لمصر والعالم العربي، وإمكانية تجاوز أزمات الزراعة والانفجار السكّاني وعشوائية العمران وتغولّ نزعة الاستهلاك والرأسمالية، واستعادة العمق الاستراتيجي في مشروع سياسي وفكري بمواجهة عدوّين أساسيّين؛ الصهيونية والاستعمار.

مغامرة معرفية تعزّزها شخصية راديكالية في مواقفها

مقاربة حمدان للجغرافيا ــ باعتبارها حقلاً معرفياً يستمدّ معطياته من التاريخ والفلسفة والأنثروبولوجيا والاقتصاد وعلوم السكّان والسياسة ــ بدت مغامرة كبرى، تُعزّزها شخصيته الراديكالية في عيشه كناسكٍ متقشّف بلا موردٍ ثابت للرزق، أو في معاركه التي خاضها في اتّجاهات متعدّدة ضدّ تحويل بلاده إلى "محمية أميركية تحت الوصاية الإسرائيلية"، نتيجة تخلّيها عن الحقوق المصرية والعربية وتوقيعها معاهدة سلام مع "إسرائيل"، أو في قناعاته الشديدة أن كلّ حجرٍ يُبنى في القاهرة هو على حساب الريف المصري الذي كان وسيبقى خزّان الغذاء وأساس أيّة خطط للتنمية توضع اليوم أو في المستقبل.

كان الراحل حدّياً في طرح مقولاته ومواقفه التي لا تقبل المساومة والتفاوض حولها، كما أبرزتْ ذلك مؤلّفاته، إلّا أننا في كتاب "جمال حمدان.. صفحات من أوراقه الخاصة"، الذي صدرت طبعته الأولى بإعداد وتقديم شقيقه عبد الحميد صالح حمدان عام 1996، نعثر على تعبيرات أكثر وضوحاً وحسماً تجاه العديد من القضايا التي ما تزال تشغل مصر والعرب حتى يومنا هذا.

في الفصل الأول، تواجهنا جملة شذرات منسوجة بغضبٍ لا يُبعدها عن أصل المشكلة التي يتناولها صاحب "استراتيجية للاستعمار والتحرير"، الذي يبرع في تشخيصها، لكنها تبقى أقرب إلى خلاصة لا يمكن استيعابها مجرّدةً عن قراءة مؤلّفات حمدان كاملة، والتي تقوم على فكرة مركزية مفادها أن مصر ذاهبة إلى القوّة أو إلى الانقراض والموت، لأسباب عديدة لا تنقصها وجاهة القول والتحليل، إنّما قد تتطوّر أدوات التفكير بها وفق المتغيّرات الراهنة.

من تلك الأفكار، حديثه عن أرض مصر التي تتعرّض للمرّة الأولى عبر التاريخ للتآكل الجغرافي، حيث أوقف السدّ العالي نموّها أفقياً ورأسياً، وباتت "بلّورة" مركّزة بالتلوثّ، مع تراجع رصيدها المائي، وتزايد سكّاني كبير يرافقه تدهور الزراعة التي تعني فرَص العمل والحياة مع امتداد الرقعة السكنية، إلى جانب متغيّرات دولية تتّصل بتفوّق "إسرائيل" وإهدار نفط العرب والهيمنة الأميركية التي من شأنها تخريب مكانة مصر.

مصر القوية الكريمة تستعيدها قوّة العمل والإنتاج مع توزيع عادل للثروات، بحسب حمدان الذي يختزل بهذه المعادلة معنى الدولة العصرية من وجهة نظره، والتي لا تكتمل فيها القوة إلّا بجمالٍ لا يعني سوى العزّة والكرامة بدلاً من العيش تحت الذلّ والاستبداد.

ويضع في الفصل الثاني أهمّ تنظيراته في الجغرافيا، التي اعتبرها أعلى مراحل الثقافة، لكنّها تعيش حالة من الحيرة اليوم لموقعها المفصلي الذي يتوسّط العلوم، وهي تصبح فاقدة لأيّة أهداف وغايات إذا ما افتقدت الأفكار التي لا يمكن من دونها قراءة المعلومات والحقائق وفي صلبها الخريطة التي تُقرأ إلى ما لا نهاية.

قبول العرب بضياع فلسطين هو إعلان أمّة حلّ نفسها

أمّا الفصل الثالث، فيستند إلى رؤية استراتيجية لم تفارق كتابات حمدان، وتتلخّص في أنّ قبول العرب نهائياً بضياع فلسطين وتثبيت "إسرائيل" إلى الأبد يمثّل إعلاناً عن حلّ أمّة نفسها واعتبار ذاتها أنها ليست أمّة، وهو انتحار سياسي وقومي، حيث لا يرى حمدان القومية كمعطى أيديولوجي يستمدّ شرعيته من التاريخ أو الدين، بل ينظر إليها في إطار "الطبيعة" الذي تحدّده الجغرافيا وحدها، حيث تمنح وحدة المصالح بين العرب وتناقض مصالحهم مع الكيان الصهيوني، وبذلك يتجاوز الشعارات حول صراع مع العدوّ على أساس ديني أو عرقي أو حتى وجودي.

وفي دراسته لأحوال العالم الإسلامي في الفصل الرابع، ينطلق من "جغرافيا الإسلام" التي لا تتطابق مع جغرافيا المسلمين وتوزّعهم في العالم وتمثيلهم كديانة، إنما تعبّر عن حقيقة علاقة الإسلام بالحضارة والتحضّر اللذين من غيرهما لا يمكن أن قيام قوّة أو كيانٍ لعالَم إسلامي، وأنه لا وظيفة سياسية فعّالة "حميدة" للإسلام اليوم إلّا بتحرير فلسطين وتشكيل وحدة يراها في مقابل الولايات المتحدة، لا أوروبا، التي يعتقد بإمكانية التكامل الحضاري معها قياساً بحقب تاريخية ماضية. وهي نقطة تحتاج إلى التفكيك، حيث تنبثق قناعات حمدان - كما كثير من المثقّفين العرب - من مسلّمات تاريخية مغلوطة تصّنف الإمبراطوريتين اليونانية والبيزنطية كجزء من الحضارة الأوروبية وليستا امتداداً لحضارات الشرق التي تفاعلت معها لقرون طويلة.

يختم حمدان مذكّراته عن العالم الغربي بإعادة الحديث عن استعداء أوروبا للعرب، الذي يمكن أن يتبدّد تدريجياً بالتركيز على المُشتركات، مقابل عداء مطلق مع أميركا بوصفها "سرطان العالم السياسي" الذي يهدّد بقية المعمورة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، الذي تنبأ بسقوطه منذ السبعينيات، وهيمنة القطب الواحد. لكنّه يستبعد فكرة "نهاية التاريخ"، التي ينظّر لها بعض الكتّاب والمؤرّخين، حيث يعتبرها نكسة للتاريخ قد تدوم عقوداً على الأقل، لكنّ الولايات المتحدة ماضية إلى انهيار محتوم مع احتمال انتقال مواجهتها إلى الشرق الأقصى (يجمع اليابان والصين ككتلة قد تتجانس مستقبلاً)، الذي لم يحظ بدراسة واهتمام من المؤلّف، ما يصيب استقراءه بثغرة قاتلة.

المساهمون