جلبابٌ وطاقية

13 مارس 2023
عزيز نيسين
+ الخط -

قلتُ من قبلُ إن الشخص حين يكتشف عدم معرفته بشيءٍ ما، فإنه يظنّ أن الجميع مثله تماماً. كم عدد سكان القاهرة في رأيكم؟ مليون، مليونان؟ إنهم أربعة ملايين ونصف. 

بمجرّد أن تخرج من المطار، تظهر المدينة على الفور. مدينةٌ كبيرة للغاية، طرُقها واسعة ومُسفلتة، وتوجد فيها أبنية عالية. قالوا لي وأنا في أثينا إن القاهرة متّسخة للغاية، لكنني أراها الآن نظيفة ومضيئة. هل أتيتُ بالخطأ إلى مدينة أوروبية؟

في هذه اللحظة كنت أقول لنفسي: "هذا هو انتصار الاشتراكيّة".

كأن ما أرى لم يكن موجوداً قبل الاشتراكية، ولكن عندما استيقظت في الصباح ونزلتُ إلى الشوارع الجانبية في القاهرة، خاب أملي تماماً. كم هي حياة بائسة. فقرٌ ووَسَخ في كل مكان. كان منظراً مخيفاً. 

كنتُ أنظر من شباك الباص إلى الخارج، ورأيت امرأتين ترتديان غطاء للرأس، وبعد أن عبرت من جوارهما قلتُ لأنظر إليهما مرة أُخرى، فاكتشفت أنهما رجلان لكلّ منهما شاربٌ كبير. كنتُ أعرف أن الرجال يرتدون الجلباب في مصر، لكنني كنت أظن أن الاشتراكية قد استبدلتِ الجلباب بالقميص والبنطلون، ولكن لم يحدث ذلك. فمن بين خمسة رجال يرتدي ثلاثةٌ منهم الجلباب، وعلى رؤوسهم طاقية، وكنا نقول عنها في تركيا قديماً "كَافِيّة".

رأيتُ الكثير من أنواع جلاليب الرجال في الطريق، بعضُها للأغنياء من قماش خاص وأُخرى للفقراء. ولكن لماذا يرتدون هكذا؟ لأنها رخيصة في المقام الأول، ولأن الجو حارٌّ في هذا الإقليم، كما أنها صارت تقليداً مع الوقت، يرتديها الغني والفقير.

في هذه اللحظة كنت أقول لنفسي: "هذا هو انتصار الاشتراكيّة"

عندما صارت مصر اشتراكية أراد النظام أن يرتدي الرجال القميص والبنطلون بدلاً من الجلباب وجعلهما بسعر رخيص، حتى أقلّ من سعر الجلباب ولكن لم يحدث هذا الأمر. بالتأكيد لم يكن سهلاً، إنها تقليد لديهم.

في اليوم التالي، ذهبتُ إلى "اتحاد كُتّاب آسيا وأفريقيا". ولأنني أُبلِغتُ متأخراً بموعد الاجتماعات، كانت قد انتهت عندما وصلتُ إلى القاهرة. أعطوني الأوراق التي كُتبت فيها قرارات الاجتماعات، وأرسلوا معي دليلاً ليرشدني في تجوالي بالقاهرة، وكان شاباً من خريجي كلية الحقوق.

انتظرتُ مجيء الدليل في السيارة أمام الاتحاد، وكان على يساري نخل كثير على امتداد كورنيش النيل. في هذه الأثناء، جاء رجلٌ حافٍ، كان مُسنًّاً وفي يده عصا ثم مدّ يده داخل السيارة. كان يشبه الهيكل العظمي لجسد عمرُه مئات السنين، وكأنه خرج الآن من تحت التراب. إننا نرى الكثير من المتسوّلين في تركيا الذين يرتدون ثياباً مهترئة، ولكنني لم أر مثل هذا الرجل من قبل. كأنه يرتدي كفناً مهترئاً ويلتصق جلدُه بهيكله العظمي. اللعنة، ليس لدي نقود لكي أعطي الرجل. 

وبعد أن قال السائق كلماتٍ بالعربية ابتعد الرجل عنَّا. وبعد دقيقتين مرّ نفس الرجل من جوارنا وهو يقود عربة يجرّها حمار عليه بِرْدَعة أسوأ من ثياب الرجل. وقد ربط الحمار بقطع قماش صغيرة، وعندما رأيت هذا تذكّرتُ قطع الأقمشة التي يضعونها للنذر على الأضرحة في تركيا. كان الرجل وكأنه قادم من زمن الفراعنة، ويحمل أحجاراً لبناء الأهرامات، ثم حدث زلزال فبقي تحت الحجارة، وبعد كلّ هذه السنين قام مع حماره وجاء إلى هذا الزمن، ويتجوّل الآن في شوارع القاهرة. لم أكن أعرف من يستحقّ الشفقة، الرجل أم الحمار؟

أريد أن أحكي لكم. هذا الرجل ليس متسوِّلاً. إنه يحمل أشياء على عربته، ويريد أن يعيش من عرق جبينه، ولكِنْ لأنه لا يستطيع العيش هكذا، فإنه يترك العربة ويتسوّل. وليس واضحاً في أي المهن هو أكثر نجاحاً. هذا ما يجعل المرء يشفق عليه أكثر.

لماذا حدّثتكم كلّ هذا عن الرجل؟ لأنه ليس وحده هكذا، فشوارع القاهرة ممتلئة بأمثاله. وقبل أن أنسى سأحكي لكم شيئاً آخر. كنتُ أنظر من شباك السيارة إلى الخارج، فرأيتُ شاحنات تحمل الإسمنت، وتمرّ بجوار عربة الرجل المتسوّل؛ هذه الشاحنات تشير إلى التنمية والبناء. نعم، مصر تتقدّم، ولكنها تترك خلفها هذا الرجل البائس مع عربته وحماره.



* فصل من كتاب "الدنيا قِدرٌ كبيرٌ وأنا مِغرفة: رحلة مصر والعراق" الحاصل على "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة" (2021 - 2020) في فرع "الريبورتاج الرحلي المترجم - الرحلة الصحافية"، بترجمة: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، ويصدر قريباً.

المساهمون