يبدو مفهوم الاستشراق معطّلاً عند الحديث عن أعمال الكثير من الفنانين الغربيين في تمثّلهم للمادة البصرية للعالم العربي، إذ يقعون في منطقة وسطى بين الإسقاطات الجاهزة وبين فهم ثقافة الآخر من الداخل. وهو ما نجده في تجارب فنانين، مثل بول كلي وأوغست ماك، زاروا المنطقة العربية واحتفوا بجمالها بشكل بريء من دون السقوط في مآخذ وقع فيها أمثال أوجين دولاكروا ودومنيك إنغريس.
وكما في اللوحة، نجد أن الفوتوغرافيا قد أنتجت مادة استشراقية حين تصدّى المصوّرون لمشاهد من المنطقة العربية. لكن مجموعة من الفنانين عرفوا كيف يخرجون من تلك السطحية الجمالية للوصول إلى معان ودلالات مختلفة، ومن ذلك تجربة المصوّر الفوتوغرافي التونسي الفرنسي جلال غاستيلي (1958) الذي تُعرض أعماله حتى 19 حزيران/يونيو الجاري في "غاليري سلمى الفرياني" بسيدي بوسعيد بالقرب من تونس العاصمة.
يحتفي بالتراثي والغرائبي من دون السقوط في النزعة الاستشراقية
على مستوى الثيمات، تلتقي أعمال غاستيلي مع الاستشراق الفوتوغرافي، حيث يحتفي أساساً بالتراثي والغرائبي (من منطلق العين الغربية) فيتقصّى تلك المباني البسيطة في قرى وبلدات بعيدة عن الحياة الحضرية الصاخبة، أو يذهب إلى أوابد منسية وبعيدة عن عمليات التنقيب الرسمية والتصوير السياحي. رغم ذلك، لا يمكن أن نصنّف فوتوغرافيا المصوّر باعتبارها استشراقية، فهي قائمة على ملاحقة التركيب الضوئي والهندسة البصرية التي يقترحها بعيداً عن كل مضمرات. ولنا أن نقارن بين الأعمال المعروضة حالياً ومجمل لقطاته الأخرى، لنجد أنه لا يوجد فارق حين يتصدّى لموضوع تونسي أو فرنسي. يتتبّع المصوّر أثر النور والظل في المباني، ولا يتعقّب الأبعاد الثقافية أو العقائدية.
لنزع البعد الاستشراقي من صوره، ربما استفاد الفنّان من كونه من مواليد تونس. ورغم أنه عاش معظم حياته في فرنسا، إلا أنه بقي يعالج مشاريعه الفوتوغرافية بمنأى عن كل مرجعيات جاهزة. ومن الواضح أنه قد وجد في الفضاء البصري التونسي مادة تحرّر طاقة عدسته من دون أن يبدو هذا القرار نابعاً من منطلقات هويته.
يُذكّرنا هذا المعرض - الذي يحتفي بجولات قام بها المصوّر في تونس التي استقرّ بها خلال السنوات الأخيرة - بمجموعته الأشهر "السلسلة البيضاء" (1997)، والتي رصد فيها الظلال التي تنتجها الجدران البيضاء. وقد جابت تلك المجموعة غاليرهات في مدن مختلفة من العالم، وجرى الاحتفاء بطرافتها الجمالية وعمق شعريتها البصرية.
في أعمال غاستيلي - خلال مجمل مسيرته - ليست هناك عناية باللقطة وحدها، بل نجد أن المصوّر التونسي الفرنسي يقدّم تجربة في معالجة الصورة وطرق طباعتها، فالظلال ليست كما نراها في الواقع، بل تنضاف إليها لمسة تكثيف حتى يتحوّل الظل - وهو في الهامش عادة - إلى محور الصورة وإن كانت تتناول موضوعاً بعينه، هو ما يصل عين المشاهد بادئ الأمر.