قرّرت دُور النشر الفرنسيّة المسؤولة عن ترجمة آثار الكاتبة الإنكليزية أغاثا كريستي (1890 - 1976م) إعادة صياغة بعض مقاطعها، بسبب تعارُضها مع حساسيّة قارئ القرن الحادي والعشرين، وإذعاناً لتوصيات "مؤسسة كريستي المَحدودة"، والتي تتولّى إدارة هذه الآثار وطبعها ونقلها إلى سائر لُغات العالَم. فمن ذلك أنها غيّرت عنوان إحدى رواياتها الشهيرة: "الزّنوج العشرة" إلى "كانوا عشرة"، لأنّ المقابل الإنكليزي أو الفرنسي لهذه الكلمة (nègre) سقطَ اليوم في مجال المحظور، وبات من المُفردات الصادمة للذوق العام، بل تحوّل إلى شتيمة يُعاقب عليها القانون بتُهمة القذف والتشهير.
وبناءً عليه، أُنشِئت لجنة متابعة مهمّتها حذف كلِّ العبارات والجُمل التي تُوحي بالكراهية والازدراء، والتي كانت شائعة مقبولة زمن كتابة هذه الأعمال، أي بين سنتَي 1920 و1976، مع أنها لم تكن طيلة تلك العقود تُثير أدنى جدل. ويبدو أنّ هذه التصحيحات والمراجعات ستشمل كلَّ أعمال كريستي، ضمن مسارٍ شامل يهدف إلى تنقية نصوصها ممّا شابها من الألفاظ التي باتت محرّمةً قانوناً، فضلاً عن مجّ الرّأي العام لها.
كما سيشمل الحذف العبارات المُحيلة على الأوصاف الجسديّة، كالقِصَر ولون البشرة وطول الأنف، علاوة على العاهات والإعاقات البدنيّة، إذ كان ذِكرُ مثل هذه الخصائص الخَلْقية مما لا يصدم، لكنّه غدا بموجب التشريعات الأخيرة من قبيل "التنمّر" والإيذاء اللذَين يستوجبان المتابعة القضائيّة. وهكذا، ستُعنى عمليّة التصحيح هذه بسائر مظاهر الخطاب العنصري والعدائي والاستنقاصي. وغالباً ما تتّصلُ العناصر الازدرائيّة بالآخَر، أي بالأجانب الذين أدمجتهم الرّوائية الإنكليزية ضمن عوالمها المُتخيَّلة، مثل "موت على ضفاف النيل" (1937)، و"قطار الشرق السريع" (1934).
لو طبّقنا هذه الآلية على تراث الأدب الفرنسي لسقط جلُّه
ورغم النوايا الحسنة التي تُوجِّه هذا القرار، والذي يمسّ أساساً الكتبَ ذات الانتشار العريض، والموجّهة إلى التلاميذ وعامّة القرّاء، فإنّ هذا التمشّي يُثير العديد من الأسئلة. فمن جهة أُولى، يستهدف التصحيح ما تعتبره هذه اللجنة منافياً للقِيم المجتمعية الرّاهنة، مثل مكافحة مُعاداة السّامية، والتمييز بين الجنسَين، وازدراء ذوي البشرة المُلوّنة، وغيرها من قيم المجتمع الغربي الراهن. لكن، ماذا عن مصير آلاف الفقرات وحتى الفصول التي تعجّ بالعبارات التي تستنقص العرب والمسلمين، والتي نُصادفها ليس فقط في الآثار الأدبية، وإنما في المعاجم والموسوعات ومناهج التاريخ والجغرافية البشرية، وحتى في مقالات "فلسفة الأنوار" التي عُدّت تحرُّرية، فضلاً عن خطابات اليمين المتطرّف الحالية. ذلك أنّ مجمل هذه الأعمال، ولا سيّما التي صِيغت خلال الحقبة الاستعمارية، لا تكادُ تخلو من صُورٍ جارحة تستنقص العرب والأفارقة، وتعتبرهم "وحوشاً" يحتاجون إلى "مهمّة حضاريّة" عميقة.
وعندما تُعهد مهمّة المراجعة إلى لجنة متابعة، تعمل تحت الإملاء الأيديولوجي أو التجاري لهذه المؤسسات، أفلا يكون بعض أفرادها ممّن يحمل نفس هذه الأفكار وقد يصححّون بشكل انتقائيّ، وهو ما نشاهده في تصريحات بعض الكتّاب الفرنسيّين الذين لا يتورّعون عن تحريك المخزون السّلبي تُجاه العرب والمسلمين، مع إضافة تسميات وتُهمٍ مُستحدَثة كتلك التي تتّصل بالتطرّف.
من الناحية الفنّية الصرفة، إذا حَذفنا هذه الجُمل والمقاطع الواقعة في "قفص الاتّهام"، فقد ينال ذلك من قيمة هذه النصوص وأجوائها المُتخيّلة، حيث كانت هذه المفردات جزءاً لا يتجزّأ من لعبة سرديّة معقّدة، تؤدّي ضمنها وظيفةً سرديّة مقصودة، وقد يُضيّع غيابُها خصوصيّة هذه الروايات، ويحوّر المَشهد الذي أُريد في عُنفه وطبيعته الصّادمة.
وإذا طُبّقت هذه العمليات التّصحيحية على سائر نصوص التّراث الأدبي الفرنسي، بما فيه أدب الرحلة والفلسفة والتاريخ والمعاجم، سقط جلّها، ولاسيما تلك الفصول والمقاطع التي تستدعي مقولات الآخَر المُبايِِن، والذي كان في أغلب الحالات العربي المُسلِم، بعد أن وُجِّهت بحقّه مئاتُ الشتائم والعبارات الجارحة طيلة القرنَين الماضيَِين.
مُراجعات قد تصير ذريعة لتزييف التاريخ وخنق الأصوات
وسيؤدّي هذا القرار إلى تزوير التاريخ الفكريّ، وأنماط الخطاب التي كانت سائدة في عصر التأليف، بل لعلّها سِمتُه الغالبة، مثلما كان الشأن بالنسبة إلى العبارات المُعادية للعَرب والمسلمين واليهود، ولن يبقى من تلك الأجواء الفكريّة وعلاماتها إلّا القليل، إذا حذفنا هذه الشواهد، وسيمحو حجبَها التطوّر الذي شهدته العقليّات والخطابات المُعبّرة عنها.
في الجهة المقابلة، دعا بعض دارسي الأدب إلى ترك نصوص "ملكة الجرائم" البريطانيّة على حالها، واقترحوا بدل تصحيحها وتنقيحها، وضْعَ هوامش تفسيريّة، تُعيد تلك العبارات الصادمة إلى سياقاتها الأصليّة، وتشرح للقارئ معانيها وأنها كانت مقبولةً عصرئذ. وذلك حتى لا يُفتَح بابُ الرّقابة على مصراعَيه، الرقابة التي تنزلق سريعاً نحو الاعتباط والتجنّي، فمَن ذا الذي سيقرّر منظومة القِيم التي نحذف وَفقها الكلمات أو نتركها، وباسم مَن وماذا سنقيّم الأثر النفسي السلبي للعِبارات؟ ولدَرْء هذا الحرج، نادى هؤلاء الدارسون إلى إصدار طبعات ثانية تتضمّن النصوص الأصليّة، من أجل الإبقاء على صدقيّة الحوارات كشاهد على الذهنيات الاجتماعيّة وتحوّلاتها، فما كان بالأمس مُباحاً قد يصير اليوم مُجرَّماً، ومن المُفيد تتبّع هذه المتغيّرات.
ولعلّ المنهج الأقرب للصواب أن يُعاد طبْعُ النصوص الأصلية وإثراؤها بالهوامش، أو المقدّمات التفسيرية التي تضعها في سياقاتها الأصلية، لأنّ هذا الباب إنْ فُتح لن يكون من المُمكن إغلاقُه، ولا حدودَ تتوقّف عندها المراجعة، بل قد تصير ذريعةً لخنق الأصوات وممارسة "القَصّ"، وتحوير التاريخ وأفكاره. فلكلّ حقبة معاييرها القيمية التي يجب أن تُدرك في سياقها الفعلي، بعيداً عن الإسقاط والحذف والتزوير. ثم ألا تنتمي هذه النصوص إلى جنس الروايات البوليسية؟ وليس المُراد منها سوى الإمتاع والتسلية، وربما كان لتلك الأوصاف الجارحة وظيفة سرديّة لا يكتمل البناء الرمزي إلّا بها. وقد تكون أغاثا كريستي نقلتْها من مشاهداتها في شوارع لندن أو باريس، أو خلال رحلاتها إلى حواضر الشرق.
وعطفاً على الثقافة العربية، من المشروع أن نتساءل عن إمكانية قيام دُور نشرنا بمثل هذه الخطوات التصحيحية لأعمال أدباء كبار، مثل توفيق الحكيم في روائعه الاجتماعية، ومنها "يوميات نائب في الأرياف"، أو نجيب محفوظ وسهيل إدريس وغيرهم. ويحسن أن نتركَ الجواب للبحوث الاستقصائية التي يمكن أن تُجرَى على تلك النصوص.
في الخطاب النقدي العربي الكلاسيكي، فضَّل علماء الأدب الخبيرون بتصاريفه إثباتَ العبارات الجارحة والكلمات النابية، وعدُّوها من "لغو الكلام" الذي لا يُؤاخذ عليه الأديب، فهو ضرب من "الغواية"، لا يُطابق فيه القولُ العملَ أو الرأيَ والعقيدة. ولذلك لم يتحرّجوا من ذِكْر ما جرى على ألسُن كبار الشعراء من عبارات عابثة، وشتائم مُقذعة لقناعتهم، بأنّها لا شيء. هذا الموقف أصدق وأجرأ من تصحيح تُشتمُّ منه غايات أُخرى.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس