مثّل جبرا إبراهيم جبرا الذي مرت أمس الثلاثاء ذكرى رحيله التاسعة والعشرين، في خمسينيات القرن الماضي، واحداً من أبرز المثقفين العرب الذين سعوا إلى توطين الحداثة في مختلف أجناس الفنون والإبداع، وخلق مدونة نقدية عربية تعتمد أدوات جديدة، والاشتباك مع الآخر وثقافته عبر الترجمة.
قدّم الروائي والناقد والتشكيلي الفلسطيني (1919 - 1994) رؤية متكاملة سواء في تحديث قراءة التراث العربي وإعادة ربطه باللحظة الراهنة، وتوظيفه ميثولوجيا حضارات المنطقة القديمة للتعبير عن القضية الفلسطيني أدباً وفناً، وصولاً إلى موقفه الراسخ بأن التنوير يأتي عبر تحديث البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية، وأن تطوير الذائقة الجمالية، هو أساس التحرّر الوطني ضدّ الاستعمار.
اختار جبرا المتعدّد إبداعياً وثقافياً خيار السرد، والرواية بشكل أساسي، لاختبار رؤيته، وطرق مساحات مختلفة أراد أن يناقشها ويطرح من خلالها مقارباته الجذرية والحادّة لمثقّف عربي فلسطيني معاصر ضدّ الإقطاع في بلاده وتأثيراته في السياسة والمجتمع، وكذلك مواقفه النقدية تُجاه التيارات المحافظة برؤاها التقليدية والبدائية، التي رأى أنها تتحمّل المسؤولية الرئيسة وراء ضياع فلسطين.
اعتبر جبرا الثقافة المحرّك الأساسي للتغيير الاجتماعي والسياسي
"صراخ في ليل طويل" كانت عمله الروائي الأول الذي صدر بالعربية عام 1955، بعد أن كتبها بالإنكليزية سنة 1946، حيث قدّم خلالها جملة تساؤلات حرجة حول المنفى والهوية في نص قصير نسبياً يتبنّى كتابة تجريبية تضع السرد الفلسطيني في مساره الحداثوي، وتصوغ قصة حبّ تقوده تفاصيلها إلى إيصاله أفكار تقدمية حول المرأة والأسرة وعلاقة الفرد بالمدينة وطبيعة تشكّل العلاقات الاجتماعية وتطورها في سياق الفوارق الطبقية والثقافية.
اعتبر جبرا الثقافة المحرّك الأساسي للتغيير الاجتماعي والسياسي، ورغم مبالغته في تقديرها، على حساب عوامل أخرى لم يُعرها كثير اهتمام، إلّا أنه نظر، أيضاً، في اغترابات الفرد العربي وضرورة تحقّق هويته الذاتية، قبل الوصول إلى هوية جمعية ومصير للجماعة/ الأمّة، متأثراً بذلك بالفلسفة الوجودية، وأن الانتصار على العدو لا يكون إلا بالاستناد إلى الحضارة والعلم والثقافة.
وأتت روايته "السفينة" رداً على هزيمة حزيران/ يونيو 1967، حيث معظم شخصياتها من المثقّفين الذين يتبنّون ثقافة غربية بحكم دراستهم أو سفرهم أو ارتباطهم بتنظيمات ثورية تعمل في الغرب، ورغم اغترابهم الواضح عن المجتمع إلا أن فلسطين تعد القضية الوحيدة التي ينتمون إليها، وربما لا تزال هذه المسألة حاضرة إلى حدّ كبير، وبشكل أكبر مع مآلات السلطة في دول عربية عديدة.
عاش جبرا في بغداد ورحل عنها، مساهماً خلال عقود خمسة في الثقافة العراقية باعتباره جزءاً منها وأحد أبرز الفاعلين في حداثتها، لكنه كرّس أعماله الروائية في إطار الصراع مع العدو الصهيوني في السياقات الاجتماعية والسياسية التي أنتجتها النكبة الفلسطينية عام 1948، واستطاع رسم شخصيات غنيّة ومؤثّرة في رواياته التي ركّزت على قضايا وهواجس شغلته طوال حياته، كاستلاب الفرد العربي للماضي وتشظّي الهوية والبحث عن تكوين ثقافي حديث وجامع للعرب.
ترك الراحل العديد من الأعمال الروائية منها "صيّادون في شارع ضيّق"، و"البحث عن وليد مسعود"، و"عالم بلا خرائط" (بالاشتراك مع عبد الرحمن منيف)، و"الغرف الأُخرى"، و"يوميات سراب عفان"، و"شارع الأميرات"، و"أيام العقاب"، وغيرها. بالإضافة إلى مؤلفات نقدية مثل "ينابيع الرؤية"، و"الحرية والطوفان"، و"الفن والحلم والفعل"، و"الفن المعاصر في العراق"، و"النار والجوهر"، و"الرحلة الثامنة"، و"الأسطورة والرمز".