معروفٌ أنّ الشّاعر والكاتب اللبناني جبران خليل جبران (1883 - 1931) لم يكتب الشّعر إلا في وقتٍ متأخر من حياته، أي بعد أن اشتهر اسمه بين كتّاب العربيّة في السرد من خلال كتبه الثلاثة: "عرائس المروج" (1905) الذي يحتوي على ثلاث قصص، و"دمعة وابتسامة" (1914) الذي يجمع بين المقالات والقصص، و"الأجنحة المتكسّرة" (1912)، وهو رواية من الحجم الصغير. وأيضًا بعد أن رَسَم عشرات اللوحات، ونظم معرضه الفنّي الأول في عام 1904، وهو في الواحد والعشرين من عمره. وهو ما يعني أن جبران قدّم نفسه للساحة الأدبيّة والفنيّة ساردًا ورسّامًا أوّل الأمر، قبل أن يفُصح عن الشاعر الذي فيه، وإن كانت صفة الشاعر تغلب على جميع الصفات الأخرى كلما أتى الذكر على اسم جبران.
ومعروفٌ، أيضًا، أن جبران كان مُقلًّا في الشّعر بالمقارنة مع ما كتبه في السّرد، وبالنظر إلى أصدقائه الشّعراء، في المهجر الأميركي خصوصًا؛ ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي. إذ لم يكتب سوى ديوانه "المواكب" (1919)، وهو عبارة عن قصيدة طويلة في التأمّل، وبضع قصائد تم إدراجها في آخر صفحات كتابه "البدائع والطرائف" (1923). غير أنّ هذا لا يعدم من وجود خصائص الشّعر في كلّ ما كتبه جبران من قصصٍ وتأملات، حيث يحضر التصوير الشعري بقوّة من خلال التشبيه والاستعارة والمجاز، فضلًا عن الانزياحات الأسلوبية التي رفعت منسوب الشّعرية في هذه النصوص أكثر ممّا هي متوفّرة في بعض دواوين الشعر، لدرجةٍ أغرتْ نقّاد الأدب بالحديث عن "الأسلوب الجبراني" الذي يجمع بين خصائص النثر وخصائص الشّعر.
إلى هذا، فإنّ جبران كان مساهمًا حقيقيًا في ترسيخ "الشعر المنثور"، والذي يُعتبَر من إرهاصات قصيدة النثر العربيّة، إلى جانب أمين الريحاني وآخرين، وإن كان ميخائيل نعيمة يخصّ جبران دون سواه بالسبق والريادة كمًّا ونوعًا، مُشيرًا إلى كتابه "دمعة وابتسامة" الذي نُشرت فصوله في جريدة "المهاجر" بين عامي 1903 و1907. ومهمٌّ أن نشير إلى أنّ نعيمة كتب كلامه هذا عام 1949 في مقدمته للمجموعة الكاملة لمؤلفات جبران العربيّة، أي قبل ظهور مجلّة "شعر" البيروتية بسنوات، والتي تبنّت مشروع قصيدة النثر نصَّا ونقدًا. وهنا، لا بدّ أن نستحضر رأي عز الدين المناصرة، الذي لا يجد فرقًا بين "الشعر المنثور" و"قصيدة النثر" إلّا في التسمية.
أنا شاعرٌ أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه
ولا يكتمل هذا الجدال إلّا باستحضار قول جبران نفسه: "أنا شاعرٌ أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه"، وإن كان السياق مختلفًا نسبياً، ويحيد نوعًا ما عن الجدّيّة التي ناقش بها النقّاد والدارسون مفهوم الشّعر المنثور. وتحيد أغلب كتابات جبران هي الأخرى عن التجنيس، فلا هي بالمقال التحليلي ولا بالقصيدة الصريحة ولا بالقصّة القصيرة بشروطها المعروفة. إنها مزيجٌ من كلّ هذا، وتمرّدٌ واضح على التجنيس وعلى الكتابة الهادئة، بلغةٍ مغايرة تؤسِّس نفسها باشتقاقات وتراكيبَ مختلفة، شكّلت عصرًا جديدًا في الكتابة النثرية العربية مطلع القرن العشرين.
من جهتهم، اعتبر شعراء مجلّة "شعر" كتابات جبران بمثابة مرحلة أولى لقصيدة النثر العربية، خصوصًا أدونيس الذي توقّف في كتابه "الثابت والمتحوّل" عند تجربته، واعتبرها ضمن التحوّلات الأساسية التي عرفها الشّعر العربي وأحد ملامح الحداثة الشعرية التي تحقّقت، عند جبران، من خلال تجاوز المألوف والتمرّد عليه والحلم والخيال، في تنزيلٍ واضح لمفهوم "الرؤيا" في الشّعر، والذي سينادي به أدونيس ورفاقه في المجلّة.
ويُعتبر جبران، من وجهة نظر أدونيس، على رأس الشعراء الحداثيين الذين ناقشوا عن وعيٍ مشكلات وشروط الإبداع الشعري، حيث يربط الشّعر بالحرّيّة والتمرّد، وهو التصوّر الذي لا يختلف في شيءٍ عن اقتراحات أنسي الحاج في البيان التنظيري الذي كتبه في مقدمة ديوانه "لن" (1960)، على اعتبار أن البيان يمثّل رأي جماعة "شعر". في الوقت الذي تُجيب فيه، بنسبةٍ ما، بعضُ كتابات جبران السردية عن سؤال أنسي الحاج الذي استهلّ به البيان: "هل يمكن أن نُخرج من النثر قصيدةً؟"، إذا ما أخذنا بالنظر حضورَ التوهُّج والإيجاز والمجّانية في كتاب "النبي" على سبيل التمثيل، وهي العناصر التي تحدّث عنها الحاج.
هذا التفاؤل الذي أسبغناه على نصوص جبران النثرية، التي شكلت الظلال الخفيّة لقصيدة النثر العربيّة، يخبو بالعودة إلى ما كتبه الرجل من قصائدَ ظلّت وفيّة للوزن والقافية من حيث بُنيتها الفنيّة، ومنحازة في موضوعاتها إلى التأمّل والاحتماء بالطبيعة وأسئلة الوجود، كما هو واضحٌ في قصيدة "المواكب". فيما تمرّدت قصيدة النثر منذ بدايتها على البُنية العروضية واحتفت بالتفاصيل واليومي والمهمّش، وانتصرت لصوت الذات، واستطاعت أن تُحقّق التراكم النصّي والاختلاف مع تجارب لاحقة، وهو ما غيّر دفة الأسئلة، هذه المرّة، صوب أنواعَ قصيدة النثر، بدل اقتصار الحديث عن ملامحها. بل إنّ النصوص الشعرية الجديدة أحرجت النقد الأدبي، حين تعذّر على هذا الأخير تطوير آليّاته ومجاراة التجارب الجديدة.
لكنْ لا بدّ أن نضع كتابات جبران واقتراحات مجلّة "شعر" في سياقهما الزمني والأدبي، وإن كان يصعب أن نضع الطرفين معًا في مقامٍ واحد، إذا علمنا أنّ شعراء المجلة البيروتية لم يقفوا متوازنين في كلّ ما طرحوه من آراء حول قصيدة النثر، والتي اتسمت أحيانًا بالأخذ والرّد على أعمدة المجلّة نفسها. واتّسعت الدائرة أحيانًا بوافدين جُددٍ، وتقلّصت في أحايين بانسحاب أسماء شعرية أخرى، كما هو الحال مع محمد الماغوط الذي وجد نفسه أكبر من أن تَسَعَ له الدائرة، ولم يتأخّر، فشنّ هجومًا على المجلّة. ومن دون أن نغفل كتاب "شوقي أبي شقرا يتذكّر" (2017)، الذي يروي فيه صاحبه حروب وصراعات الشّعراء في "شعر"، وهو الذي عمل فيها سكرتيرًا للتحرير. أمّا بالنسبة إلى جبران خليل جبران، فلو تأتّى لنا الأمر وسألناه بخصوص كتاباته لأجابَ باقتضابٍ: لقد كتبتُ وكفى.
(كاتب من المغرب)