"جائزة ماكس جاكوب" إلى نوري الجرّاح: اعترافٌ بقصيدة فريدة

04 مايو 2023
نوري الجرّاح
+ الخط -

يُحبّ الذين يكتبون عن الشعر -ومنه الشعر السوري- نسْب هذا الشاعر أو تلك الشاعرة إلى جيل أو مدرسة أو قناعة أسلوبية. مع الشاعر نوري الجرّاح، يبدو الأمر صعباً، وهو ما يفسّر صعوبة الإحالة على علاقة شعره بهذا الشاعر السوري أو ذاك، أو وضعه في سياق شعري ما. ذلك أنه يكتب منذ عقدين، وربما منذ البداية، قصيدةً لا نعثر لها على جذور يمكن تتبعها في الشعر السوري، بل وفي الشعر العربي المعاصر أيضاً؛ قصيدة لم نصادف ملامح تشابه معها في تجارب غيره لنقول إننا صادفنا أثراً لها هناك، ولم نقع على إرهاصات تهيّئ لها قبلَه. إنها نتاج تجربة فريدة تخص صاحبها. 

وقصيدة الجرّاح، رغم ذلك -وهذه مفارقتها- قصيدةٌ سورية بكل معاني الكلمة، بل قد يكون شعر الجرّاح (دمشق، 1956) أكثر سوريّةً، بالمعنى الثقافيّ والجغرافيّ وحتى الاجتماعي والسياسي، من كثير من الشعر الذي كتبه سوريون في الآونة الأخيرة. ويكفي النظر إلى موضوعات شعره وأماكنه وأبطاله والعذابات والأشواق الجماعية التي يختزنها، وإلى العُمق التاريخي الحضاري الذي تنبني عليه قصيدته، للتأكّد من ذلك. ولا يغيب عن البال أن قصيدته حملت في العقد الأخير صوت الشعب السوري وثورته المخذولة والعظيمة -رغم الخذلان- بتضحيات بناتها وأبنائها. 

قبل أيام، كشف القائمون على "جائزة ماكس جاكوب" الشعرية، في فرنسا، عن فوز نوري الجرّاح بها لهذا العام في فرع الشعر المترجَم، وذلك عن كتابه "ابتسامة النائم"، وهو عبارة عن مختارات شعرية ترجمها أنطوان جوكي إلى الفرنسية (224 صفحة)، وصدرت نهاية العام الماضي في سلسلة "سندباد" لدى منشورات "أكت سود". وإلى جانب الجرّاح، نال الشاعر والتشكيلي البلجيكي جان بيير أوت (1949) الجائزةَ في فرع الشعر المكتوب مباشرةً بالفرنسية، فيما مُنحت الجائزة في فرع الاكتشاف للشاعر الفرنسي بنوا ريس (1976).

تجربة شعرية عربية مجددة بالغة الفرادة في لغتها ومخيلتها

و"جائزة ماكس جاكوب"، التي تحمل اسم الشاعر الفرنسي البارز (1876 ــ 1944)، واحدةٌ من أرفع جوائز الشعر في فرنسا، وهي تُمنَح سنوياً منذ عام 1950، وقد كُرّمت بها أسماءٌ أساسية في الكتابة الشعرية الفرنسية المُعاصرة، مثل ميشيل دُغي، وجاك ريدا، وصلاح استيتيّه، وبول دو رو، وبرنار نويل، وجان بيير سيميون، وجيمس ساكريه، كذلك نالتها في السنوات الماضية أسماءٌ شعرية سورية بارزة، مثل أدونيس (2008) وسليم بركات (2018). 

ويشمل "ابتسامةُ النائم" قصائد ومقاطع شعرية مقتطفة من نحو ثلاثين عاماً من الكتابة الشعرية: منذ 1988، عام صدور مجموعته الثانية "مُجاراة الصوت"، وصولاً إلى عام 2019، الذي صدر خلاله كتابُه "لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة". وما بين هذين العنوانين، تشمل المختارات الفرنسية -التي رُتِّبت قصائدُها من الأحدث إلى الأقدَم- نصوصاً من مجموعات "كأس سوداء"، (1993) و"صعود أبريل" (1996)، و"حدائق هاملت" (2003)، و"الحديقة الفارسية" (2004)، و"طريق دمشق" (2004)، إلى جانب "يوم قابيل والأيّامُ السبعة للوقت" (2012)، و"يأسُ نوح" (2014)، و"قارب إلى لسبوس" (2016).

ويمكن النظر إلى هذه المختارات بوصفها تتويجاً لحضور الشاعر السوري في المشهد النشري والشعري الفرنسي، وهو الذي تُرجمت له مجموعةٌ من الأعمال والقصائد التي صدرت في كتب عدّة خلال السنوات الماضية، مثل "الأيام السبعة" التي ترجمتها رانيا سمارة (دار "أوروبيا"، 2013)، و"طريق دمشق" التي ترجمها صالح دياب (دار "المنار"، 2014)، إلى جانب عدد من الأعمال التي نقلها أيمن حسن: "قارب إلى لسبوس وقصائد أُخرى" (دار "مْوار"، 2016)، و"يأس نوح وقصائد أُخرى" (دار "موار"، 2017)، و"لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة" (دار "رافائيل دو سورتي"، 2020)، و"الخروج من شرق المتوسّط" (دار "أوروبيا"، 2022). 

حملت قصيدته في العقد الأخير صوت الشعب السوري وثورته

في تجربته يصل نوري الجرّاح الشعرية العربية بعمقها الحضاري المتمثل بالمراحل التاريخية السابقة، حيث يعيد شعره الاتصال بطبقات حضارية وثقافية متعددة، فنسمع نبض شخصيات من التاريخ السوري القديم مثل الشاعر ميلياغروس الجداري أو المعمار أبولودور الدمشقي أو الإمبراطورية جوليا دومينا باعتبارها سيدة سورية، أو حين يتقمص صوت الشاعرة الإغريقية سافو في  ديوانه الملحمي "قَاربٌ إلى لِسْبُوسْ" ويُنشد بصوتها نشيد الغرق الدامي ومراثيه التي يشرق الأمل من أوجاعها: 

"أيُّهَا السُّورِيِّوُنَ  الَألِيمُونَ، السُّورِيِّوُنَ  الوَسِيمُونَ، السُّورِيِّوُنَ الأاشِقْاءُ الهَارِبُونَ مِنَ المَوتِ، أَنْتُم لَا تَصِلُوَن بالقَواربِ، ولَكِنَّكُمْ تُولَدُونَ عَلَى الشَّواطِئِ مَعَ الزَّبَدِ.
تِبْرٌ هَالِكٌ أنتم، تِبْرٌ مَصْهُورٌ وَضَوعٌ مُصَوَّحْ.
مِنْ لُجَّةٍ إلى لُجَّةٍ فِي خَاصِرةِ بَحْرِ الرُّومِ، مَعْ نَجْمَةِ البَحْرِ وَشَقِيقِها الحَبّارِ التَّائهِ، تُرْسِلُكمُ الَامْوَاجُ فِي ضَوءِ بَنَاتِ نَعْشٍ.
 
كَمَا تُولَدُ عَرَائِسُ البَحْرِ تُولَدُ الحَسْنَاواتُ السُّورِيَاتُ، فِي ضَوءٍ رَاجِفٍ 
ويَطَأنَ بِرَاحَاتِ أَقْدَامِهِنَّ الرَّخْصَةِ المُجَرَّحَةِ حَصَى لِسْبُوسْ وَرَمْلِهَا الرَّمَادِي..

انْزِلْنَ مِنْ فَاكِهَةِ الشَّامِ
إِلَى حِجَارَةِ الَالَمْ".

وَصْلُ سورية والشعرية العربية بالإرث المتوسطي المشترك بين العرب وشعوب المتوسط أمر تبرع به قصيدة صاحب "لا حرب في طروادة - كلمات هوميروس الأخيرة" (2019). يحضر على سبيل المثال الإرث الإغريقي بوعي المساهمة السورية فيه من شاعر يعرف تاريخ بلاده ومنطقته جيداً، يعرفها بشكل منفتح على الآخر وضمن فهم تقدمي للهوية العربية، لا على طريقة النزعات العنصرية لتي ظهرت واندثرت في القرن العشرين، حيث محاولة استعمال التاريخ القديم لضرب الهوية الحضارية العربية وصناعة هويات انعزالية وطائفية مريضة.  

وإن كان الالتفات العالمي إلى هذا الشعر مؤشر إيجابي على مكانة الشعر العربي المعاصر والتجربة الشعرية العربية الحديثة، فإنه أيضاً كسب معنوي للقضايا التي يحملها الجرّاح شاعراً ومثقفاً: من حرية فلسطين من الاستعمار الصهيوني إلى حرية الشعب السوري من نظام دكتاتوري يبتسم فوق الخراب، وما بينهما من قضايا الإنسان العربي. 

ننشر هنا قصيدة من ديوان "‭‬لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ" الصادر عن منشورات المتوسط عام 2019. 
 



كَلِمَاتُ‭ ‬هُومِيرُوسْ‭ ‬الْأَخِيرَة

نوري الجرّاح


لَا‭ ‬بَحْرَ‭ ‬وَلَا‭ ‬مَرَاكَبَ‭ ‬وَلَا‭ ‬سَلَالِمَ‭ ‬عَلَى‭ ‬الْأَسْوَارْ،
لاَ‭ ‬حِصَانَ‭ ‬خَشَبِيَّاً،‭ ‬وَلَا‭ ‬جُنُودَاً‭ ‬يَخْتَبِئُون‭ ‬فِي‭ ‬خَشَبِ‭ ‬الْحِصَانْ
سَأَعْتَذِرُ‭ ‬لَكُمْ‭ ‬يَا‭ ‬أَبْطَالِيَ‭ ‬الصَّرْعَى؛
آخِيلُ‭ ‬بِكَعْبِهِ‭ ‬الْمُجَنَّحِ
هِكْتُورْ‭ ‬بِصَدْرِهِ‭ ‬الطُّرْوَادِيُّ‭ ‬الْعَرِيضْ
وَأَنْتَ‭ ‬يَا‭ ‬أَغَامِمْنُونْ‭ ‬بِلِحْيَتِكَ‭ ‬الْبَيْضَاءِ
وَسَيْفِكَ‭ ‬الْمُسْلَطِ‭ ‬عَلَى‭ ‬رِقَابِ‭ ‬الْبَحَّارَةِ‭ ‬الْهَارِبِينَ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْمَعْرَكَةْ‭.‬

‭ ‬‭***‬

لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ
لَا‭ ‬دَمَ‭ ‬وَلَا‭ ‬دُمُوعَ
لَا‭ ‬أَقْوَاسَ‭ ‬نَصْرٍ‭ ‬وَلَا‭ ‬أَطْوَاقَ‭ ‬غَارٍ‭ ‬فِي‭ ‬الرُّؤُوسْ
لَا‭ ‬جُرُوحَ‭ ‬فِي‭ ‬جَثَامِينِ‭ ‬الرِّجَالْ
لَا‭ ‬قَتْلَى
وَلَا‭ ‬قُبُورَ
لَا‭ ‬آسَ‭ ‬عَلَى‭ ‬الْأَسْمَاءِ‭ ‬وَلَا‭ ‬بَاكِيَاتٍ‭ ‬فِي‭ ‬شُرُفَاتِ‭ ‬الْبُكَاءْ‭. ‬

‭***‬

لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ
الْمُرَاهِقُ‭ ‬لَمْ‭ ‬يَقْطِفْ‭ ‬تُفَّاحَةً‭ ‬لِامْرَأَةٍ‭ ‬فِي‭ ‬شُرْفَةٍ
وَلَمْ‭ ‬يَكُنْ‭ ‬فِي‭ ‬الْمَدِينَةِ‭ ‬زَوجٌ‭ ‬اسْمُهُ‭ ‬مِينِلَاوسْ
هِيلِنْ‭ ‬وَحْدَهَا،‭ ‬كَانَتْ‭ ‬تَتَشَمَّسُ‭ ‬فِي‭ ‬حَدِيقَةِ‭ ‬هُومِيرُوسْ
وَلِأَجْلِ‭ ‬وِشَاحِهَا‭ ‬الْقُرْمُزِيِّ‭ ‬وَخَدِّهَا‭ ‬الْأَسِيلِ
أَسْلَمَ‭ ‬خَيَالَهُ‭ ‬لِلرِّيحْ
وَأَصَابِعَهُ‭ ‬لِلْأَوتَارْ‭.‬

‭***‬

لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةَ
لَا‭ ‬مَرَاكِبَ‭ ‬عَلَى‭ ‬السَّوَاحِلِ،‭ ‬وَلَا‭ ‬جُنُودَ‭ ‬فِي‭ ‬الْمَرَاكِبِ
الْقَمَرُ‭ ‬يَلْهُو‭ ‬فِي‭ ‬الْحُقُولِ،‭ ‬والشَّجَرَةُ‭ ‬تُؤْنِسُ‭ ‬الْحِصَانَ‭.‬
‭ ‬لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬
فِي
طُرْوَادَةْ

الْمُنْشِدُ‭ ‬أَسْلَمَ‭ ‬قِيثَارَتَهُ‭ ‬لِلرِّيحِ
وَاسْتَرَدَّ‭ ‬أَصَابِعَهُ‭ ‬مِنَ‭ ‬الْأَوتَارْ
عُودُوا‭ ‬إِلَى‭ ‬بُيُوتِكُمْ
عَانِقُوا‭ ‬الزَّوجَاتِ‭ ‬الصَّغِيراتِ‭ ‬وَقَبِّلُوا‭ ‬الْأَطْفَالْ
وَتَلَهَّوا‭ ‬بِخَمْرَةِ‭ ‬الْعِيدْ‭.‬

‬لَا‭ ‬حَرْبَ‭ ‬فِي‭ ‬طُرْوَادَةْ‭.‬