ثنائيّة الشّعر والحياة.. عبد اللّطيف اللَّعبي مُكرَّماً في تونس

28 يونيو 2023
عبد اللطيف اللعبي، 2011 (تصوير أوليفيا هورفاث)
+ الخط -

احتضنت مدينة الحّمامات التونسية، بين 19 و25 حزيران/ يونيو الجاري، الدورة 37 من مؤتمر "المجلس الدّولي للدّراسات الفرنكوفونيّة". وكان اختيار تونس قد جاء في سياق انعقاد "المؤتمر الدولي للفرنكوفونيّة" المنبرم في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي بجزيرة جربة، علاوة على أنّ الحمّامات مدينة صغيرة وضاربة في الجمال على السّاحل الشّرقي التّونسي، على بعد ستّين كيلومتراً جنوب العاصمة تونس، وثمانين كيلومتراً شمال ثاني أهمّ المدن التّونسيّة، جوهرة السّاحل، سوسة.

مثل عدد من البلدان الأفريقيّة، بقيت النخبة التونسية متعلّقة بلغة موليير بسبب الاستعمار الفرنسيّ، وذلك منذ فجر الاستقلال في 1956. كما أنّ الفرنكوفونية نابعة في تونس من استخدام اللّغة، وكذلك من خلال علاقة معقّدة ومتنوّعة في هذا الإقليم بالتّحديد، وفي البلاد ككلّ، كما يتجلّى ذلك من خلال الآداب والفنون، وهي تعبيرات عن ثراء التمثيلات الثّقافيّة للفضاء الاجتماعيّ والتّاريخيّ والإنسانيّ على حدّ السواء. هذا الثراء هو بالتأكيد ما قصد "المجلس الدّولي للدراسات الفرنكوفونيّة" تتويجه حين قرّر الاحتفاء في نسخته هذه بالشّاعر والرّوائيّ والمترجم المغربيّ عبد اللّطيف اللّعبي، مانحاً إيّاه جائزته لسنة 2023.

ويجدر التّذكير أنّ عبد اللّطيف اللّعبي من مواليد سنة 1942 في مدينة فاس. أسّس عام 1966 مجلة "أنفاس" الّتي لعبت دوراً طليعيّاً في تحديث الإبداع والفكر بالمغرب الأقصى والعربيّ على حدّ السّواء، إذ نشرت أعمالاً ونصوصاً لمبدعين تونسيّين وجزائريّين، كما ترجمت إلى الفرنسيّة لأوّل مرّة أهمّ الشّعراء العرب والفلسطينيّين. سُجن اللّعبي من أجل دفاعه عن الحرّية من 1972 إلى 1980، وانتقل سنة 1985 إلى فرنسا، حيث يقيم حتى الآن. تتوزّع أعماله ما بين الشّعر والرّواية والمسرح وكتب الأطفال والدّراسات حول الثّقافة والسّياسة، وتُرجمت إلى كثير من اللّغات، وتحصّلت على العديد من الجوائز المهمّة في فرنسا وغيرها من البلدان، كجائزة "غونكور للشّعر" سنة 2009، و"الجائزة الدولية للشعر: عصر ذهبي جديد" من المكسيك سنة 2017، وعربياً جائزة محمود درويش لسنة 2020، وغيرها الكثير. 

إذا كنت تكتب، فاحتراماً لميثاق الشرف الذي وقّعته مع نفسك

تَرجم اللّعبي إلى الفرنسيّة عدداً من الشّعراء والرّوائيين العرب، من بينهم محمود درويش، سميح القاسم، عبد الوهاب البيّاتي، محمّد الماغوط، حنّا مينه، غسّان كنفاني، سعدي يوسف. كما أنجز قبل أربعة عقود أول أنطولوجيا للشعر الفلسطينيّ المعاصر، أتبعها العام الماضي بأنطولوجيا أُخرى للشعر الفلسطيني الجديد، وأخرى بالشّعر المغربي منذ الاستقلال.

وفي إطار تحصّله على جائزة "المجلس الدّولي للدّراسات الفرنكوفونيّة"، تقدّم عبد اللّطيف اللّعبي بكلمة يمكن ترجمة عنوانها بـ"فحص أدبيّ جديد"، وهو شعار معبّر، لأنّ الشّاعر والكاتب المغربيّ الملتزم لا يقبل بالقوالب الجاهزة ولا يسمح للكذب أن يزيّف كلماته الحرّة: 

"اسمحوا لي، في افتتاح هذه الكلمة، أن أستشهد، للذّكرى، بنهاية آخر فحص أدبيّ لي بعنوان 'الكتابة عند المنعطف'، والّذي كُتِبَ سنة 1995 ونشرته دار 'المنار' عام 2000: 'اكْتُبْ، إذن، ما دامت لديك القوّة. ما يخرجُ من أصابعك لن يُطعم الجياع، ولن يُعيد الحياة لطفل انفجرت في وجهه قنبلة كان يداعبها على أنّها لعبة، ولن يلهم الفضيلة إلى مفترسي هذا العالم. كتابتك لن تُعيد وحدة الكوكب، ولن تُقلّلَ من عدم المساواة، ولن تمنع الحروب والتّطهير العرقيّ والأخلاقيّ والثّقافي. لكن ما أنت متأكّدٌ منه هو أنّها لن تكون كذبة من شأنها أن تُضيف إلى الأكاذيب، جمرة من الكراهية تغذّي نيران الكراهية... إذا كنت تكتب، فهذا احترام لميثاق الشّرف الّذي وقّعته مع نفسك بمجرّد تفتّحك على الوعي. سيكون الفشل الأكبر إذا ما لم تحافظ يوماً ما على ماء وجهك. في النّهاية، اللّعنة، لماذا تسأل نفسك كلّ هذه الأسئلة، لماذا تُعذّبُ نفسك لتضع كلّ هذه الاستنتاجات؟ الكتابة، عندك، كصلاة موجّهة إلى الحياة حتّى تستمرّ في زيارتك. إذا كنت لا تزال تكتب، فذلك لأنّك ما زلت على قيد الحياة.
من يستطيع لومك؟'.
ماذا يمكنني أن أضيف بعد ربع قرن من هذه الشّهادة؟ 
قليلٌ وكثير، على ما يبدو لي".

هكذا انطلقت كلمات الشّاعر عبد اللّطيف اللّعبي وكأنّها وابل من الرّصاص في وجه مَن يقتلعون أشجار الزيتون ويرفسون بأحذيتهم المحتلة الأزهار والورود. هذا هو عبد اللّطيف اللّعبي، الشّاعر والرّوائي والمترجم، وقبل كلّ شيء الإنسان. ويواصل صاحب رائعة "قاع الخابية" بهذه الكلمات: 

"في الوقت الذي كُتب فيه هذا النّص، كنّا نشهد تكريس نظام عالمي جديد فرضه علينا زعماء أميركيون متبجّحون، بلا دين أو قانون، بعد التّدمير الفعلي لأحد مهود الحضارة الإنسانية، وهو العراق. تبع ذلك ما أسميته في ذلك الوقت 'فوضى العالم' الّتي ما زلنا نُعاني منها حتّى أيامنا هذه. أضف إلى ذلك الوباء الذي أودى بحياة ما يقرب من خمسة عشر مليون إنسان، بل، والأكثر ترويعاً، الدّمار النّاجم عن تغيّر المناخ، والوعي الّذي اكتسبناه من التّهديدات التي تؤثّر على استدامة وجودنا على الأرض. هل يمكننا اليوم قياس تأثير هذه الأحداث الكبرى على ضمائرنا، وبشكل أكثر تحديداً على ضمائر الكتّاب؟ وإذا تمسّكتُ بحالتي الشّخصية، فهل تغيّرت حدّة وطبيعة 'احتراق الأسئلة' الّتي كنتُ أتحدّث عنها منذ فترة ليست بالبعيدة؟ ألم تسقط هذه الأسئلة بفعل الزّمن؟". 

شّاعر يأخذ من الالتزام جوهره ولا يقبل بالقوالب الجاهزة

نعم، أسئلة اللّعبي أهمّ من الأجوبة الّتي يمكن أن يتحذلق السّاسة وغيرهم في ابتكارها، فنحن نفضّل فعل السّؤال عن كلّ الأجوبة لأنّنا نحوّل الأجوبة إلى أسئلة جديدة. وربّما لهذا السّبب شرع الشّاعر في قراءة مقتطفات شعريّة مختارة من أعماله الأخيرة، خاصّة كتاب "الشّعر لا يُهزَم" الصّادر بالفرنسيّة سنة 2022 عند منشورات "لو كاستور أسترال" بباريس، والّذي نقله إلى العربيّة محمّد خماسي عن "دار الرّافدين" في مفتتح سنة 2023.

من بين القصائد الّتي اصطفاها عبد اللّطيف اللّعبي للتّعبير عن نظرته الشّعريّة للعالم وللإنسان على حدّ السّواء، يمكن ذكر قصيدة "شويّه"، والّتي تكشف من خلال هذه الكلمة المغاربيّة، الّتي صارت مستعملة بطريقة يوميّة في اللّغة الفرنسيّة، عن البعض من مظاهر عالم اليوم:

"شْوِيّه من ذا أو من ذاك
تُريح النفس.
شْوِيّه من السعادة
تكفي بِضْع دقائق
ولا يَهُمُّ إن كرَّرْنا كلّ مرّة
إحدى أكثر التفاهات ضحالةً:
الحياة جميلة!
شْوِيّه من الأمل
بعد مُضِيّ الويْلات
وغَدا الابتسام من جديدٍ مُباحاً
آه! يا لِلْبصيص الضّئيل
الوَغْد
الذي طال انتظارُه.
شْوِيّه من العافية
عندما يَحْلو للألم
أن يكون سَمْحاً
والجسد يتفتَّق
ويفيض نُسْغاً
مثل شجرةٍ في أواسط الربيع.
شْوِيّه من الصداقة
وكتفها السانحة
لدرجة أننا لا نشعر بالحاجة
إلى أن نضع عليها رؤوسنا
وعنايتها الرفيعة
لدرجة أنَها تَبُثُّ الحيرة.
شْوِيّه من الشِّعر
في الحُبّ
وهذا لا جدال فيه
حركات وكلمات مناسبة
غمزات بالكاد تُدْرَك
سخرية بِلَذْعٍ أخفّ
لحظات صَمْتٍ مُفعَمة بالشهوانية
شْوِيّه من الرِّفْق
لأنه يُسعد الآخر
لا أحكام ولا إدانة
قبل الفهم
مدُّ اليد
دون التفكير مُسْبَقاً في الشرّ
أو الخير
أكثر من شْوِيّه من السُّخْط
سواء أَهَبَّتْ ريحٌ أم سقط مَطَر
سواء أَتَساقَطَ الثّلج أم أشرقت الشمس
لأن الظلم لا ينقطع
ويُضْني على الدوام
ودوماً لا يُحْتَمَل.
شْوِيّه من الاندهاش
أمام قِيَمِ الجمال المؤكَّدَة:
وجه المرأة المَجيد
من دون قناع
وحتى بقناع
نظرة الطفل الحامية
التي تغوص بعيدًا فينا
فجرٌ يُولَد
يسْهرُ على صحراء
مسْكونةٍ بذكرى البحر
شْوِيّه من ذا أو من ذاك
على وجه الاختيار
رقمٌ رابحٌ
بعد كل هذه الخَيْبات
التي نتعوَّد عليها
كما نتعوّد على أخبار اليوم غير السّارّة
المتوقّعة مثل الضباب
والأمطار
في الجزر البريطانية".


* شاعر ومترجم تونسي، نشر له "معهد العالَم العربي" في باريس سيرة فكرية عن عبد اللّطيف اللّعبي تحت عنوان "كرَم الصّمت"

المساهمون