1
كلُّ شيء في علاقتهما يُشبه البوظة، وهذه جملة خبرية يردّدها كارلوس فرناندس وهو يحكي لأصدقائه الجُدد منهم والقدامى، ما حدث مع صديقه دينيس تشافاريّا الذائب في عشق آرانسا غاوباردي مثل آيس كريم مانجو في يوم قائظ. وهذا عائد لقصّة لقائهما الأول في محلّ بوظة بحيّ لا كونتيسا بالمكسيك.
محلٌّ قديم تحكي الصورة المعلّقة على جداره تاريخَ تأسيسه في الستينيّات من القرن العشرين. كان صاحبُ المحلّ مهاجِراً بولندياً استقرّ في المكسيك خلال الحرب العالمية الثانية، وتعرّف إلى فتاة كانت تبيع المثلّجات على عربة تقف بها قريباً من حيٍّ يوجد فيه معظم اللاجئين البولنديين، وقد هام بحبّها هو الآخر حتى أنّه رفض العودة إلى بولندا بعد انتهاء الحرب، أو التوجّه للشمال الأميركي كما فعل قسم من عائلته، وتزوّج آنهيلا التي كانت له ملاكاً حارساً كاسمها وأسّسا معاً محلًّا للبوظة باسم "ثلوج بولندا".
ليس لدينيس أية علاقة بالبولنديين، يروي كارلوس، غير أنّه التقى آرانسا في "ثلوج بولندا"، بعد فترة قصيرة من وصوله إلى المكسيك عائداً من الولايات المتحدة التي أنهى فيها دراسة الفنون التشكيلية. لقد قرّر أن يزور متاحف العاصمة جميعها ويطّلع على جميع الفنون الأزتيكية لمشروعه الفني ومسرحيّته التي يعمل على إخراجها، وقادتْهُ استراحةٌ قصيرة لتناول البوظة للتعرّف إلى آرانسا التي كانت تسكن على بعد شارعين من المحلّ. كان قد سألها عن معرض فني يقع في وسط المدينة المسمّى "سوكالو" ودارَ معها حديث قصير انتهى بمرافقته إلى المعرض. وقد كثرت لقاءاتهما بعد ذلك ومرّت في معظمها بالمتاحف والمعارض الفنية والسينما. سألته ذات مرّة:
- كلّ هذا الحبّ لتاريخ الأزتيك والمايا ولم تحبّ فتاةً منهم؟
- كيف لا؟ أنتِ منهم.
وأسهب دينيس في شرح تداخل الأعراق في المكسيك ليقول لها إن كليهما يحمل دماءً مختلطةً بالدم الأزتيكي، وهذا ما يُشعرهما بالراحة عند مرورهما بهذه الأماكن، حتى أنهما قرّرا اقتناء التقويم الأزتيكي ومتابعته. زارا الشامان مارتين تشيوالاف، وعرفا منه تاريخ ميلادهما حسب التقويم القديم، وبناءً على حساباته، نظّما مواعيد أنشطتهما بما يتوافق مع مسار القمر والشمس. كان ذلك عام 1998، حين تنبّأ مارتين أنّ العالمَ سينتهي عام 2000، وقرّر دينيس أن عليهما الذهاب للعالم الآخر وفي حوزتهما المعرفة الكافية بالعالم الحالي. وهكذا، أقنع آرانسا ببيع ما ورثته عن والدها من بيت قديم في حيّ لاريفورما وهو أحد الأحياء الأرستقراطية القديمة في العاصمة المكسيكية، ومزرعة شرق البلاد بما فيها من خيول ودواب، ليجوبا العالم من أقصاه لأقصاه ويتعرّفا إلى أسراره التي سيستفيدان منها في عبورهما للعالم الآخر بعد سنتين. وفي اليوم المنشود، تمدّدا على قمّة جبل نصحهما مارتين بتأدية آخر صلاة لهما في هذا العالم على قمّته.
كلّ هذا الحب لتاريخ الأزتيك والمايا ولم تحبّ فتاة منهم؟
أمسكا بأيادي بعضهما، عانقت آرانسا دينيس:
- كن قريباً مني هناك كما كنت هنا.
- سنصعدُ السماء مثل عمودَي دخان ونتلاشى لنلتقي مرّة أخرى على هيئة أزهار سيمباسوشيل.
أومأت برأسها وأغمضا أعينهما حتى حين.
2
صفّق الجمهور مع انتهاء المشهد الأخير لمسرحية "ثلوج بولندا" التي كتبها وأخرجها كارلوس، وكانت العرض الأول بعد بدء العودة للحياة اليومية مع انحسار جائحة كورونا عام 2021، أي بعد مضي واحد وعشرين عاماً على نهايةِ عالمٍ واصلَ نشاطه بوتيرةٍ أسرع وهو يمرّ عبر حروبٍ ومجازرَ وأوبئةٍ.
3
فتحت آرانسا عينيها في اليوم الأول من عام 2000 على السماء نفسها وفي العالم نفسه. حاولتِ العودة للنوم مجدّداً لتؤكّد لنفسها أنّ عالمها الحقيقي مجرّد حلم، واستغرق الأمر دقائق معدودة كي تدركَ أنّ العالم الآخر هو الحلم.
- دينيس... دينيس، أين أنت؟
لم يكن دينيس قد نام أصلاً... ما إن بزغت خيوطُ الفجر حتى تأكّدت شكوكُه أن كلام مارتين ما كان ليتوافقَ مع عام 2000، لملمَ البسيط من أشيائه وغادر الجبل.
4
توجّهت آرانسا خلف كواليس المسرح نحو كارلوس مباشرة، وقد اتّضح للجميع - بمن فيهم كاتب هذه القصة - أن كارلوس هو نفسه، دينيس.
ارتبك كارلوس وهي تتّجه بخطوات ونظرات ثابتة نحوه... لم يسمع أحدٌ حديثهما، وإن بدا أنّ كارلوس تفوّه بقليل من الكلمات إزاء إيماءةٍ من آرانسا برأسها... وقد شوهِدا بعد العرض جالسَين في "ثلوج بولندا"، يأكلان البوظة - على مهلٍ - ولُمحت لطخةٌ من آيس كريم المانجو على قميص كارلوس.
* كاتبة ومترجمة فلسطينية مختصّة بثقافة وشعر أميركا اللاتينية