في نهاية عام 1849، شهدت تونس انتشاراً واسعاً لوباء الكوليرا الذي أدّى إلى وفيات بالعشرات يومياً، ما اضطر الناس كما تروي المصادر التاريخية إلى الهرب من العاصمة والتوجّه إلى الأرياف، لكن المرض واصَل تفشّيه حتى صيف العام اللاحق.
لكن الوباء سيعود مرّة أُخرى في منتصف سنة 1856، ليُخلّف المزيد من الضحايا في جنوب البلاد، واعتمدت السلطات الحجر الصحي، أو ما مان يسمّى "الكرنتينا"، كأحد المستجدّات في عصر التنظيمات بسائر الولايات العثمانية آنذاك، وتصاعد الجدل بين الفقهاء والسياسيين حول الإجراءات المتبعة التي باءت معظمهما بالفشل.
"ثلاث رسائل في الكوليرا.. من رصيد دار الكتب الوطنية، 1849 - 1858" عنوان الكتاب الذي جمعه وحقّقه الباحث التونسي محمد المهدي عبد الجواد، وصدر حديثاً عن "دار الكتب الوطنية" بتونس العاصمة، بتقديم المحلّلة النفسية والكاتبة رجاء بن سلامة.
يضيء الكتاب القرارات التي اتخذها أحمد باي بن مصطفى (1806 - 1855)، حاكم آيالة تونس، الذي أمر عسكره بمنع القادمين من مدينة باجة وضواحيها للدخول إلى العاصمة والسواحل الشرقية، ثم عزل الباي نفسه في بستان وزيره مصطفى خزندار بقرطاج، قبل أن ينتقل بين مدن المحمدية وباردو وغار الملح خوفاً من إصابته بالوباء.
تشير المقدمة إلى أن الباي "أمَر رئيس أطبائه، الحكيم إبراهيم لمبروزو، بتنسيق العمل الطبي والوقائي في البلاد. ونُشرت في نفس الفترة ثلاث رسائل في الكوليرا تعرّف بهذه الجائحة وتقدّم نصائح للوقاية منها، وقد ألّف الرسالة الأولى مصطفى بهجت أفندي، الطبيب الأول للسلطان محمود الثاني بمدينة إستانبول".
كما توضّح أن الرسالة الثانية التي "يمكن اعتبارها وثيقة إدارية رسمية، قد ألّفها الحكيم إبراهيم لمبروزو، وأما الثالثة فقد كتبها سليمان الحرايري، وهو شاب متخرّج من جامع الزيتونة، وانتخب "عدل إشهاد" (كاتب في المحكمة يوثق العقود، وهي مهنة لا تزال موجودة حتى اليوم)، وحظي بعلاقات متينة بالقسّ فرنسوا بورغاد، مؤسس مستشفى فرنسي بتونس، كما تعلّم الحرايري اللغة الفرنسية قبل سنتين من هذا التأليف وشرع في قراءة المؤلّفات المكتوبة في هذه اللغة.
ويقّدم الكتاب أيضاً وصفاً موجزاً لوضع تونس أيام الكوليرا، إلى جانب تحليل لرسالة مصطفى بهجت التي عرّبها شخص مجهول الهوية عند وصولها إلى مدينة تونس، ثم تحلّل رسالة لمبروزو حول الوقاية من هذا الداء، في صيغتها الأصلية وفي الصيغة التي راجعها الوزير أحمد بن أبي الضياف، ويتطرّق المؤلّف إلى رسالة الحرايري التي طُبعت على مطبعة حجرية وأعيد نشرها في جريدة "برجيس برس" مع إجراء مقارنة بين الرسائل الثلاث ونشرها مع تحقيق علمي لها.