ثقافة المقاومة.. السياقات والوسائل

25 أكتوبر 2023
طفل يتسلّق تمثال إلفثيريوس فينيزيلوس، ساحة أرسطو بمدينة سالونيك 19 الشهر الجاري (Getty)
+ الخط -

 إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها، وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين مُعمَّدة بدم أبنائها.


التفكير بـ الثقافة في أيّ وقت، ولا سيّما وقت القصف والدمار وتجلّي الهمجية بأبشع صورها هو شكل من أشكال المقاومة المُستدامة. الثقافة من حيث كونها نتاجا بشريّا ترتقي برُقيّ جميع المشاركين في إنتاجها، وتفقُر حين يتراجع الاهتمام بإغنائها. من هنا، كلّ فرد مسؤول عن إغناء أو إفقار النتاج الثقافيّ.

إنّ الجرائم التي يقوم بها الكيان الصهيونيّ مرّة جديدة بغطاء أو صمت - لا فرق - عربيَّين ودوليَّين، يُحتِّم على كلّ إنسان أن يُفكّر في ما يُمكن أن يفعله خدمة لفلسطين. كي أكون واضحاً، ما تُعانيه فلسطين، برأيي، هو نوع من تجلّيات الظلم بين الناس. هي أكثر مَن يُعاني منه، ولكنّها ليست الوحيدة ولن تكون الأخيرة، إذا لم يفكّر الناس بالارتقاء نحو العدالة ومنع سرطان الظلم من التفشّي أكثر في جسم البشريّة. 

في هذا الإطار، وانطلاقاً من القضيّة الفلسطينيّة، أعتقد أنّ على المنخرطين في الشأن الثقافيّ أن يُراجعوا دورهم وتأثيرهم كلٌّ في بيئته، إذ إنّهم أوّل المعنيّين بنشر الثقافة وإشراك ناس أكثر بإغنائها. أقصد بالبيئة السياقَ المكانيّ والاجتماعيّ والثقافيّ وسوى ذلك من السياقات. فخطاب الإنسان العربيّ في بلاد الانتشار لا بدّ أن يختلف عن خطابه في العالَم العربي. وخطابه في البلاد ذات الأنظمة الديكتاتوريّة يجدر به أن يُغاير خطاب مَن يعيش في ظلّ هامش من الديمقراطية، وهلمّ جرّاً. 

ما سبق يعني أنّ على كلّ منخرط في الشأن الثقافي أن يفهم إمكاناته ويُنمّيها ويحدّد البيئة التي سيجسّد فيها مشروعه كي لا يبقى "ظاهرة صوتيّة". فرغم أنّ القضيّة واحدة وثابتة حتّى بلوغ أهدافها وإنصاف فلسطين، إلا أنّ أدوات تحقيقها مُتبدّلة لتُواكِب السياقات وتَبدُّلِها. 

المقاومة من غير ثقافة تؤول حتماً إلى التطرّف وتفشل

لا يختلف اثنان على أنّ وظيفة الثقافة قبل كلّ شيء تنمية الوعي والفكر النقديّ، وهذا لا يتحقّق بلا استقلال تامّ عن كلّ أنواع السلطات. نقد السلطة بشكلها التقليديّ لم يعُد يكفي اليوم. فقد أوجدت الأخيرة أقنعة عديدة تختبئ خلفها؛ ولم تعد تخاطب الناس بوسائل تقليديّة إذ بات بإمكانها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي ومنصّاتها العديدة. كلّ هذا يستدعي موقفاً نقديّاً واضحاً وتسخيراً مفيداً لكلّ وسيلة، حتى لا يسود الابتذال ولا تنحصر الثقافة بفئة قليلة منغلقة على ذاتها.

السياقات الثقافيّة، برأيي، لا تقلّ أهمّيّة عن الوسائل؛ ففهم السياقات ضروريّ من أجل تحديد الخطاب الذي يجب أن يصاغ به المشروع الثقافيّ. القضيّة الفلسطينيّة في العالم العربيّ مثلاً تستطيع أن تعبّر عن نفسها حتّى في أشدّ الأنظمة العربيّة قمعاً أكثر ممّا تستطيع ذلك في العالَم الغربيّ. هناك أُطُر تُضيِّق من الحقّ في إيصال المعلومات التي لا توافق عليها حكومات الغرب تحت ذرائع مختلفة. لذلك يجب إدراك هذه الأُطُر جيّداً لمعرفة هوامشها والتحرّك وفقها أوّلاً لتجنُّب القمع الكلّيّ، وثانياً منعاً لِحَرْف الأنظار عن القضيّة عبر اتّهام المدافعين عنها بالسلوك الاستفزازيّ أو التطرّف وسوى ذلك. 

معرفة السياق الثقافيّ الغربيّ أمر لا بدّ منه، إذ لا يخفى على أحد أنّ العالم الغربيّ، لا حكّاماً فقط بل شعوباً أيضاً، يزداد انحيازاً إلى العدوّ الصهيونيّ. كيف يُمكن تغيير ذلك من غير وعينا لذاتنا وإبراز غنى الحضارة العربيّة وإسهاماتها على كلّ صعيد، لا سيّما في عصرنا هذا؟ من أفضل السبل إلى هذا هو دعم حركة الترجمة إلى لغات العالم الغربيّ وزيادة الكتابة بها وتفعيل الدبلوماسيّة الناعمة عموماً. 

بصرف النظر عن الاقتراحات العَمليّة، هناك مُسلَّمات يحسن على من يعملون في المجال الثقافيّ الالتزام بها، ومنها: 

- فَهْمُ البُعد السياسيّ البَحت لقضيّتنا يقود إلى نبذ الخطاب الدينيّ لأنّ لا علاقة له بها. فالاستعمار والاحتلال والإجرام في كلّ بقاع الأرض كلّها أفعال سياسيّة لا تمتّ لأيّ دين بصلة، وإن حاول البعض إعطاء ذريعة دينيّة لإجرامه. 

- العمل على تعزيز التعايُش أينما كان، لأنّه يُحصّن المجتمعات من حَرْف الأنظار عن السياسة، واستغلال الأديان وسيلة وذريعة لمآرب أُخرى. 

- إدراك ترابط الثقافة والمقاومة. فالمقاومة بلا ثقافة بدل أن تنجح ستجنح إلى التطرُّف وتفشل. والثقافة بلا مقاومة لاحتلال العقل والأرض على حدّ سواء تفقد بوصلتها. فالمقاومة فعلٌ واعٍ ومُدرِك، أمّا التطرّف فانفعال لا يؤدّي سوى إلى دوّامة من القتل والدمار. 

الانحياز الإعلاميّ الغربيّ وانتشار هذا الإعلام في بلادنا حتّى، وتراجع شعوب العالم عن دعم قضيّتنا دليل على تقصير أهل الثقافة في رسالتهم. عسى أن تشكّل هذه الجولة من الإجرام الصهيونيّ بحقّ فلسطين صدمة تزيد من اهتمام كلّ عربيّ، في بلاده أو في بلاد الانتشار، بنشر ثقافته والتعريف بها. فحضارتنا لم تقم إلا على التفاعل الخلّاق بين الشعوب، وهذا أكثر ما يحتاجه عالمنا، اليوم، لتسود فيه العدالة والإنصاف لفلسطين وكلّ مظلوم.


* مترجم لبناني وأستاذ في "جامعة أثينا"

هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الثالث من الملفّ: اضغط هنا

 

المساهمون