ثقافةٌ في زمن المِحَن: ما الذي يمكن فعله إزاء الزلزال؟

07 فبراير 2023
آثار الزلزال في أزقة ما تبقى من حلب القديمة (Getty)
+ الخط -

يوسّع الزلزال الذي ألمّ بسورية وتركيا، فجر أوّل من أمس الإثنين، مساحة الجرح الهائل الذي يصيب منذ سنوات كينونة السوريين وكيانهم، دون أن نعرف متى سيلتئم، أو إنْ كان بالأساس قابلاً للالتئام. جرحٌ تثخنه اليوم كارثةٌ طبيعية، لا فاعل وراءها غير حركة الأرض، لكنّها تُوازي وتستكمل ــ في مأساويتها ــ الكوارث الإنسانية والسياسية والاقتصادية والحقوقية التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ الشعب السوري منذ 2011 بشكل خاص، وبشكل عام منذ وصوله إلى الحُكم قبل أكثر من خمسة عقود.

ما الذي يمكن أن تفعله الثقافة وأن يفعله المثقّفون إزاء كارثة كهذه؟ أي، بعبارة أُخرى، ما الذي يمكنهم أن يفعلوه كمثقّفين تحديداً، وليس فقط كأشخاص متأثّرين، مثلنا جميعاً، بما حصل، يعبّرون عن سخطهم وعزائهم ودعمهم؟ بالتأكيد، لا يمكن للمثقّف أن يحلّ محلّ دولةٍ ما ومؤسساتها، أو محلّ "مجتمع دولي" غائب وأصدقاء وداعمين غائبين. لا يمكن له أن يقدّم ملاجئ وبيوتاً ومساعدات إنسانية. لكنْ يمكن له، بعد انقضاء الحدث، أن يساعدنا على أن نرى ما يجري لنا، على فهم ما جرى لنا. يمكن له أن يقدّم لنا كلماته، وربما رسوماته وأعماله الفنية، لنشاركه في طريقته بقول هذا الحدث، بطريقته في التعبير عنه وتوصيفه وفهمه.

عبر حسابه على "تويتر"، كتب ياسين الحاج صالح، الكاتب السوري والسجين لسنوات في معتقلات الأسد: "بأوقات الواحد يشعر بالخجل من الوجود. هذا واحد من هالأوقات. كل هذه المعاناة التي لا تنتهي تطعن في شرعية كل شيء والجميع، فتثير الخجل لأننا من الجميع. ما كان ينقص السوريين الذين عومل ما حدث لهم كأنه كارثة طبيعية دون فاعلين، زلزال أو ما شابه، إلا زلزال حقيقي، ضحاياه سلفاً بالمئات".

قبل الهزّة، عومل ما حدث للسوريين ككارثة طبيعية دون فاعلين

في القسم الأخير من تغريدته هذه، يسمّي الحاج صالح ذلك الصمتَ شبه الكوني إزاء المجرم والمجرمين الذين دمّروا سورية وشعبها منذ خروجه إلى الشوارع والساحات في 2011. وكأنّ القمع، والقتل، واستخدام الأسلحة الكيميائية، والتهجير، والتدمير، والتعذيب في السجون، ليست أفعالاً تحمل توقيعاً. لقد تعامل "المجتمع الدولي" مع هذه الأفعال بوصفها أحداثاً طبيعية، كوارثَ لا فاعلين وراءها يمكن محاسبتهم، يعاني منها "ضحايا" لا يفهمهم هذا المجتمع الدولي إلّا بعقلية المساعدات الإنسانية. والمفجِع، كما يذكّرنا كلام الحاج صالح، أن الزلزال يأتي ليعيد لنا كلّ هذا. يأتي ليذكّرنا، كزلزال حقيقي، بذلك "الزلزال" المفتعَل، الذي لم يُحاسَب مَن افتعله. الكارثة، إذاً، كارثتان. 

بعد هذه العبارات الأولى، عاد الحاج صالح ليتدارك كلامه عن الخجل أو العار، الذي يرفض الاستكانة إليهما كلمجأ نهائيّ: "كي لا نتسمّم بالخجل، ربما نحاول تحويله إلى غضب. غضب من ترك ملايين البشر مستباحين للطبيعة بعد أن استبيحوا لبنى الدولة والنظام الدولي 12 عاماً". والكلام هنا لا يذهب إلى المقارنة، كما قد يُعتقد، بين ما يفعله النظام وما تفعله الطبيعة، بل يضعنا أمام حقيقة ملموسة إلى أبعد حدّ: أن هذا النظام حرم السوريين من البنى التحتية، ومن فرق المساعدة، والإنقاذ، ومن الأدوية، والمستشفيات، والأطباء، ومن آلات وآليات التدخّل والإنقاذ، ومن كلّ شيء يمكن له أن يساعد السوريين عند وقوع كارثة مثل هذا الزلزال.

في مكان غير بعيد، انتقد الباحث والصحافي السوري جورج كدر كلّ مقارنة "بين أفعال النظام السوري وفعل الطبيعة، لأن ما فعله نظام الأسد وألحقه من دمار بسورية لن تفعله أعتى الزلازل، فأكثر من نصف سورية اليوم مدمّر". ويفنّد، في منشور له على "فيسبوك"، كلام مَن يقولون إن ما وصلت إليه سورية اليوم "بسبب الثورة" (وليس بسبب النظام!) أضعف من إمكانياتها لمواجهة مصائب طبيعية كهذه. يكتب: "إن ما نال عناصر الدفاع المدني من قتل وسجن وتعذيب لن تفعله أعتى الزلازل، وما نقص المنقذين اليوم [ليس] إلّا من أفعال النظام. وحتى الدمار لم يكن ليكون بهذا الحجم الهائل لولا ما نال الحجر من وهن من قصف النظام والنظام الإيراني والروسي وتجريبهم أعتى انواع الأسلحة وأكثرها فتكاً ودماراً في سورية. باختصار، ما بدها القصّة مقاربات سخيفة لاستثمار ضحايا هذا الزلزال لننسى ما فعلته آلة إجرام الأسد المدمّرة التي لن يضاهيها بسفك الدم وتدمير المدن والقرى أي زلزال صنعته الطبيعة".

بدوره، ينطلق الزميل والروائي السوري سومر شحادة من وحدة سورية بين دول العالَم ومن عزلة الشعب السوري بسبب سياسات النظام ليعبّر عن موقفه ممّا جرى ويجري. يكتب على صفحته في "فيسبوك": "النداءات الإنسانية للعالم لن تجد استجابة حتى لو كانت الكارثة أضعاف ما حصل. هي نداءات فقط تستنزفنا. إنّنا جميعا، هنا، ضحية الخيارات السياسية للنظام، خصوصاً بعد حرب أوكرانيا. نحن رهائن، هذا توصيفنا الحقيقي والدقيق. وهذا حديثٌ ليس وقته. لكن أقصى ما يمكن تأمله هو استجابة عربية ما تكسر الحصار الأميركي الجائر الذي يوجد من يؤيده من السوريين، وبدأت الاستجابة في العراق ولبنان المنكوب أيضاً، والإمارات والجزائر. أظن جاء الوقت ليكون الناس واقعيين. نحن وحيدون صحيح، لكن لم يعد ينفع أن نلوم الإنسانية. نحن وحيدون، لأنّ خياراتنا خاطئة. لأننا رهائن، ولأن موتنا لا يملك صوتاً".

إنّنا جميعا، هنا، ضحية الخيارات السياسية للنظام

الصورة أيضاً قادرةٌ على مساعدتنا على الفهم وعلى إعطاء شكلٍ لما نحسّه ونعيشه إزاء هذه الكارثة. الفنّان ورسّام الكاريكاتير السوري سعد حاجو تناول الزلزال في أكثر من عمل نشره، منذ أول من أمس، على حسابه في "فيسبوك". تصميمٌ لعينين في هيئة بشر تتنازعان على أحقّية كلّ منهما بدمعة؛ استعادة لـ"صرخة" مونش في رسم بالأسود والأبيض وقد تمزّق فيه الأفق "بحسب مقياس ريختر" الذي قيست به هذه الهزّة الأرضية العنيفة، ورسمٌ ثالثٌ لسوريين، أو لبشر بشكل عام، يهجرون أراضيهم وأغراضهم على أكتافهم وأبناؤهم يمسكون بأياديهم، بينما الأرض تتشقّق من تحتهم. 

بدوره، يأخذنا رسّام الكاريكاتير السوري فارس قره بيت إلى مأساة الحدود، وربما وجود سلطات النظام، التي تفصل بين سوريي الداخل وسوريي الخارج وتحول دون وصول مساعدات الأخيرين إلى أهاليهم ومواطنيهم الذين أصابهم الزلزال. أمّا الفنان التشكيلي اللبناني أسعد عرابي، فقد دعا، عبر "فيسبوك"، نظراءه الفنانين إلى أن يتهيّأوا "للتبرّع بواحدة من لوحاتهم للجمعيات الخيرية الموثوقة وبسرعة، ليتمّ بيعها في مزاد عام" وتقديم عائدها إلى المتضرّرين من الكارثة.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون