عادةً ما يكون شهر رمضان أحد أنشط مواسم الثقافة في تونس؛ حيث إن الكثير من التظاهرات ارتبط تنظيمها بحلوله؛ أبرزها "مهرجان المدينة" الذي يُقام في عدّة مدن تونسية من العاصمة إلى صفاقس، ناهيك عن العروض المسرحية والموسيقية التي تُروَّج فيها بشكل خاص العروض ذات النزعة الصوفية والفولكلورية، مثل "الزيارة" و"الحضرة" وعرض المالوف.
لكن رمضان هذا العام يبدو مختلفاً تماماً، فقد تزامن مع الموجة الثالثة من فيروس كورونا، ما اضطرّ الحكومة إلى اتخاذ إجراءات وقائية كان أبرزها منع التجوال بعد الغروب، وإغلاق الفضاءات العامة، ما عدا تلك التي توفّر الحاجيات الأساسية، وطبعاً ليست قاعات العروض والغاليريهات والمكتبات والمتاحف منها. وهو ما يعني توقّفاً تاماً للحياة الثقافية في شهر رمضان لعل تونس لم تعرف مثيله من قبل.
لم تظهر هذه المرة موجة من الاحتجاج لدى شرائح من المثقّفين، وهو ما يعني إيجاد المؤسسة الرسمية لعدد من حلول الدعم لقطاعات مثل المسرح والكتاب والفنون التشكيلية، كما أن انتشار العدوى السريع كان أحد الأسباب التي أجّلت كل احتجاج، في محاولة لتوفير مناخ اجتماعي ملائم لجهود وقف انتشار الوباء والتخفيف من خسائره.
تبدو "مدينة الثقافة" في شهر رمضان الحالي أشبه بمدينة أشباح
في السنتين الأخيرتين، راجت دعاية من الدوائر الرسمية أن افتتاح "مدينة الثقافة" يمثّل تنشيطاً لمجمل القطاعات الإبداعية، لكن لم تمض سوى أشهر حتى بدأت موجات الفيروس تتوالى، وتتابع معها إغلاقات "مدينة الثقافة" بمؤسساتها الكثيرة مثل "قطب المسرح" و"متحف الفن المعاصر"، و"بيت الرواية"، و"معهد تونس للترجمة"، وغيرها.
مرّ أكثر من عام منذ بدء الجائحة العالمية ولم نجد أي محاولة في "استثمار" ضخامة المشروع. كان يمكن أن تكون "مدينة الثقافة" باتساع مساحتها حلاً بديلاً لكثير من العروض التي لا يمكن أن تُقام في القاعات العادية. قلة الحيلة الإدارية جعلت من مدينة الثقافة مجرّد جدران ضخمة، وفي رمضان هذا العام باتت أشبه بمدينة أشباح.
كان يمكن أن تكون الخيارات الافتراضية التي تتيحها التكنولوجيا فرصة لبقاء بعض الحياة في المشهد الثقافي التونسي، غير أن القائمين على مختلف حقول الفن والأدب والفكر لا يبدون متحمّسين لهذا الخيار، لنجد مهرجاناً وحيداً (إلى حد الآن) يقام افتراضياً؛ "فنون عبر الواب" الذي تنظّمه "المندوبية الجهوية للشؤون الثقافية ببن عروس" (بالقرب من تونس العاصمة) ما بين 23 و29 من نيسان/ إبريل الجاري، وعدد من محاضرات تظاهرة "شهر التراث" التي تتواصل حتى 18 أيار/ مايو المقبل.
يُذكر أن الموجة الأولى من الوباء، منذ عام تقريباً، أنتجت حرَكية ثقافية على وسائط التواصل الاجتماعي، وكانت قائمة على مبادرات فردية من الفنانين، لكنها سرعان ما خفتت ولم نعد نجد لها أثراً في "ترقيع" ما بلي من الحياة الثقافية الواقعية. يمكن أن نضرب مثلاً على ذلك تلك الحركية التي نجحت في إطلاقها صفحة "بعد الساعة الرابعة" بمبادرة من المخرج المسرحي نزار السعيدي، وكانت تقدّم في أيام الحجر الصحّي مسرحيّتين يومياً، إحداهما تونسية، وكانت هذه العروض تفتح الباب لنقاشات بين فريقها والجمهور. توقّفت المباردة لاحقاً لعدة أسباب، منها عدم توفّر معظم المادة المسرحية عبر تقنيات الفيديو وعدم موافقة الكثير من المسرحيين على عرض أعمالهم افتراضياً.
في المحصلة، بدت مباردة "بعد الساعة الرابعة" وقد استهلكت كل طاقتها في بضعة أسابيع. تمثّل هذه التجربة عيّنة عن كيفية التعامل مع البديل الافتراضي، وبالتالي فقد صادف رمضان هذا العام كل الأسباب ليجد حياة ثقافية مهجورة تماماً من أهلها ومن كل اجتهاد في إنقاذها من التوقّف التام.