استمع إلى الملخص
- يُبرز الاستقلال الثاني الفرق بين التحرر من الاستعمار الخارجي والداخلي، حيث كان النظام الأسدي أكثر بشاعة، مؤججًا للطائفية والحرب الداخلية، مما أدى إلى مقتل مليون شخص، مقارنة ببضعة آلاف خلال الانتداب الفرنسي.
- يعيش السوريون حالة من عدم التصديق بعد سقوط النظام، ويفتح هذا الحدث الباب لبناء دولة جديدة، تتطلب تحمل المسؤولية والتركيز على الحرية التي حُرموا منها طويلاً.
يُعتبر سقوط نظام الأسد أهمّ حدث في سورية منذ ما يزيد عن مئة عام، فالانتداب الفرنسي لم يدُم أكثر من ربع قرن (1918 - 1946)، ومثله فترة الحُكم الوطني مع سلسلة الانقلابات، وضمنها فترة الوحدة والانفصال (1946 - 1970)، بينما استمرّ حُكم الأسد الأب والابن ما يزيد عنهما معاً (1970 - 2024)، ما أتاح لهما وقتاً كافياً لصناعة جمهورية فاسدة وخراب شامل، جمهورية كانت في طريقها للتحوّل إلى ملكية وراثية، فالعائلة في اتساع، والوراثة باتت قانوناً مرعياً. ختمت جمهورية الأسد حُكمها بحرب زادت عدد سنواتها (2011 - 2024) عن الحربين العالميّتَين، الأُولى والثانية. سقط النظام رغم الدعم والحماية التي أسبغتها عليه روسيا ومليشيات مذهبية إيرانية وحزب الله.
هذا كي نعطي فكرة صغيرة عن حجم حدث كبير، ويمكن تقدير مفعوله من اليأس الذي استولى على السوريّين ووقعوا في شراكه، حتّى إنّهم اقتنعوا بشعار الأبد الذي كان عنوان نظام الأسد، وكان على وشك أن يتحقّق، لولا سقوط النظام.
يبدو يوم الثامن من كانون الأوّل/ ديسمبر 2024 يوم الاستقلال السوري الثاني، باعتبار السابع عشر من نيسان/ إبريل عيد الجلاء؛ الاستقلال الأوّل، الذي كلّف سورية عدّة ثورات وتضحيات شارك فيها السوريون جميعاً، على الرغم من رمزيته الوطنية في حياتنا، يكاد يتفوق عليه الاستقلال السوري من الطغيان الأسدي، فبالمقارنة معه، من ناحية الضحايا والخراب والتهجير والنزوح وما استجرّه من احتلالات، تبدو الشقّة واسعة بينهما، خصوصاً أنّ الفرنسيّين قدّموا لسورية شيئاً لا يُستهان به من مؤسّسات، وإذا كانوا أحياناً قد عطّلوا حرّية الصحافة والبرلمان، لكن كان لهما وجود فاعل، وليس وجوداً من دون أيّة فعالية سياسية. ومهما بلغت الصدامات مع الفرنسيّين، فلم تتجاوز بضعة آلاف من الشهداء، وليس مليون شهيد، طبعاً لا مفاضلة بين الشهداء. والأهمّ إذا كان المحتلّ الأجنبي مزّق سورية بالطوائف، فإنّ الأسد رسّخها واستخدمها لإشعال حرب داخلية، تحت شعار حماية الأقليات.
ما حدث أقرب إلى الحلم، ولا استغراب إن خاف السوريّون الاستيقاظ منه
إذا كان الاستقلال الأوّل رمزاً للتحرّر من الاستعمار الخارجي، فالثاني رمز للخلاص من الاستعمار المحلّي، وهذا لنؤكّد أنّ الداخلي لا يقلّ عن الخارجي، وقد يكون أبشع، وهو ما أثبتته عائلة الأسد التي كانت رغبتها في امتلاك سورية أرضاً وشعباً بموجب قانون الوراثة، بينما الفرنسي لم يجسر حتى على اعتباره وضع اليد على سورية احتلالاً، فدعاه بالانتداب.
بعد أربعة وخمسين عاماً تحرّرت سورية من الطغيان الأسدي، وحتى الآن بعد مضيّ نحو شهر، يعتقد الكثير من السوريّين أنّهم لا يعيشون ما أصبح الواقع، خاصّةً أنّه في الوقت الذي شيّعنا آخر أمل للخلاص من النظام، جاءت ضربة إسقاطه، خلال بضعة أيام أشبه بعملية غامضة جدّاً، أقرب إلى الحلم منها إلى الحقيقة، ولا استغراب إن خاف السوريّون من الاستيقاظ منه. هذا القلق ينتابهم من فرط ما عانوه. ما يبدّده هو أنّه لا يمكن أن يحلموا جميعهم الحلم نفسه. لكن، لمَ لا؟ ما دام أنّهم عاشوا الكابوس نفسه، فسوف يحلمون الحلم ذاته.
هذه اللحظة لو تأخّرت، لامتدّ عُمر النظام لا أقلّ من نصف قرن آخر، وربّما إلى ما يشبه الأبد، فهذه الأنظمة تنشد البقاء بكلّ الوسائل، أحدها القتل، لا تهتمّ بشعوبها، وتترك بلدانها تتعفّن إلى ما لا نهاية.
حسناً، لا بدّ من مرور بعض الوقت كي نعتاد على حرّية لا تُقدَّر بثمن، حُرمنا منها طويلاً، يُخشى الاستهتار بها وتمييعها في النقد المجّاني المنتشر في وسائل التواصل، وكأنّه تمرين على الهراء، لم يدركوا بعد أنّ سورية تخطو في قلب العالم، ولا بدّ لهم من تحمّل مسؤولياتهم كاملةً في بناء دولة لا تُبنى بالنقد لمجرّد النقد، وتَعِدُ بتنبّؤات كارثية تتجاوز كارثة عودة الاستبداد.
كم هي تافهة حرّية الرأي عندما تُهدر على استعراض مهارات لا تُبرز سوى عاهات ثقافة أدمنت النقد، ولا تعرف كيف تفكّر.
* روائي من سورية