تنازُع الترجمات

26 اغسطس 2024
تمثال دون كيخوته ورفيقه سانشو بانسا في "ساحة إسبانيا" بمدريد (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- النقاد العرب تميزوا بتتبع أصول المعاني في الأدب وإبداع المصطلحات النقدية، مع التركيز على المبتكرين الأوائل.
- في الترجمة، كانت الإسبانية أسبق من الإنجليزية والفرنسية في ترجمة "المسخ" لكافكا بفضل جهود بورخيس ورامون ماريا طنريرو ومارغاريتا نلكن.
- ترجمة "دون كيخوته" شهدت تنازعاً بين الباحثين العرب، مع ترجمات مبكرة في المشرق والمغرب العربي، مما يعكس تعقيدات الترجمة كجنس أدبي مستقل.

اشتُهِر النّقاد العرب باجتهادهم في رد المستَحدَث من المعاني الواردة في شِعرهم ونثرهم إلى مُفترِعيها الأوائل، كما عُرفوا بتفنُّنهم في إيجاد المصطلح النقديّ للصّفة التعريفية لكل حال، كقولهم في باب الشعر، مثلاً، إنّ امرأ القيس هو أوَّل من وقف واستوقف وبكى واستبكى، وأنه هو مُقصد القصيد، وكانوا يُردِّدون إن الشاعر الفلاني في قوله كذا يَنظُر إلى البيت الفلاني، أو يأخذ من فلان، أو يسرق منه أو يُغير عليه، إلخ.

ويَصدُق الكلام أعلاه على التأليف الأدبي أيضاً، وهو ما اهتم النُّقاد برصده وتعقُّبه في كل فن من الفنون، وقد أبدعوا في ذلك بما عُهد فيهم من بحث دقيق، فاستطاعوا بمهارة لافتة النبْشَ في جينيالوجيا التأليف، ليُؤكِّدوا أن الكُتُب تتناسل من بعضها، مع التنويه بالمُجترِح الأوّل لكل فن أو عِلم، ولو أنه لا يُمكن التسليم أبداً بأن هناك مؤسِّساً أوَّلَ، وكأنّ لا شيءَ كان قَبلَه، فالبدايات الجنينية تكون ضرورة مثلما أنّ التلال والهضاب تكون مقدِّمة لظهور القِمم العالية.

ويتذكّر القارئ العربي أنَّ كتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، الذي أحدث بأسئلته المعرفية الدقيقة انعطافاً في التفكير النقدي العربي، قد انشغل بعضٌ من منتقديه بادعائهم عدَمَ تقديمه أيَّ فائدة إلى الثقافة العربية، لأن أسئلته النقدية ليست بالجديدة على النقد العربي، فقد سبق لها أنْ طُرحتْ قديما من قِبل ابن سلام الجمحي أو آخرين، حتى لكأن هؤلاء المنتقدين يختصرون الإفادة وما يقتضي الإشادة بأنْ تكون القول الأوَّل في أي باب من الأبواب، وليس في تقديم الجِدَّة التي تَصدُر عن وجهة نظر مُختلفة بناءً على منهجية علمية دقيقة.

كانت الإسبانية أَسبَق من الإنكليزية والفرنسية في ترجمة كافكا

ولا يخفى أنّ قضية السبق إلى فن من الفنون هي من القضايا التي لم تكن الترجمة بمعزل عنها؛ ولا يفتأ البحث في هذا المجال يُطالعنا بالجديد، في الثقافة الغربية مثلما في نظيرتها العربية، والواقع أن التنازُع في هذا الشأن ليس بين المترجِمين بالطبع، بل بين النقاد الباحثين، الذين يرغبون في الوصول إلى حقائق ومعطيات أَصْدق.

يكشف لنا العالَم الناطق بالإسبانية مُعطيات مهمة بخصوص ترجمة أعمال فرانز كافكا إلى اللغة الإسبانية؛ لقد اكتشف متكلِّمو الإسبانية رواية "المَسخ" لكافكا في فترة متقاربة، وقد أطْلَعهم عليه في لغتهم كلٌّ من بورخيس، ورَامُونْ مارِيَّا طِنْرِيْرُو ومارْغَارِيتَا نِلْكِنْ، وكانت الإسبانية بذلك أَسبَق من الإنكليزية والفرنسية والإيطالية في ترجمة كافكا إليها، وحدث ذلك على صفحات "مجلة الغرب"، لصاحبها الفيلسوف الإسباني أورتيغا إِي غاسّيت، سنة 1925.

لقد  أنكر فِرَّانْدُو سُورِّنْطِنُو، الروائي والصديق القريب كثيراً من الأرجنتيني بورخيس، أن يكون الأخير قد ترجم "المسخ"، ولم ينف عنه أنه ترجم مقتطفات من أعمال الروائي التشِيكيّ، وبقي الاشتباه في أمر الإسباني رَ.مَ.طِنْرِيْرُو، بعد أن قدّم كثير من الباحثين ما يُؤكِّد أسبقيّته في ترجمة الرواية إلى الإسبانية، لكنّ دراسات دقيقة وعميقة قامت بها المتخصِّصة في الأدب الألماني كْرِيسْتِينا بِسْطانْيا ابتداء من 1999، أَوقفتْها على رسالةٍ كانت قد بعثَتْها مارْغَارِيتَا نِلْكِنْ من منفاها المكسيكي إلى باحث إسباني سنة 1964، أكَّدتْ فيها أنها ترجمت لكافكا عن الألمانية في "مجلة الغرب"، وبذلك ينتهي التنازع في شأن أوَّل من ترجم كافكا إلى الإسبانية.

ونكتفي، في عالَمنا العربي، باستحضار التنازع بين الباحثين في إثبات أوَّل من ترجَم رواية ثربانتس "دون كيخوته دي لا منشا" إلى العربية. لقد روّج الأشقاء العرب في الشرق العربي بأنّ الأديب عبد العزيز الأهواني هو أوّل من ترجم عمل ثربانتس الرائد سنة 1957، لكنّ ترجمته هي في حكم العمل المفقود، ثم تبعه عبد الرحمن بدوي بترجمة صدرت 1965، وتلت هاتين الترجمتين أخريَان: واحدة لرفعت عطفة 2021، وأخرى لسليمان العطار 2002، هذا في المشرق العربي.

أما في المغرب العربي، وفي تطوان تحديداً، فإن البحث لم يَنتَبه إلى ترجمتيْن سابقتيْن على الترجمات المَشرقية السابقة، الأولى هي في حكم العمل المفقود، وجاءت بمبادرة من مسؤول عن العلاقات مع العالم العربي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة هو فؤاد إفرام البستاني، الذي كلّف المترجِميْن نايب أبو ملهم وموسى عبود سنة 1948، وكانا كلاهما يشتغلان عند إدارة الاستعمار الإسباني، والثانية أنجز قسطاً وفيراً منها الأديبُ المتصوف التهامي الوزاني بين 1951-1966، ونشرها في جريدته "الريف"، ولم تخرج إلى النور، لكنّ نسخة إلكترونية من مخطوطتها موجودة.

هكذا يكون التنازُع بين الترجمات في السبق الزمني واقعاً لا يرتفع، يَشهدُه الإبداع والتأليف والترجمة، وبذلك تكون الترجمة عن حقّ جنساً أدبياً على حدة، وتكون قضاياها من قضاياه.


* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية
المساهمون