لستَ وحدَكَ
حين تمشي في طريقٍ
أوّلَ المساء،
والسماءُ زرقاءُ داكنة
كالحلمِ في آخره،
أو كاليأسِ في أوله،
وقلبُكَ حافٍ،
وروحُك شراع،
وشيءٌ غامض
يشدّك
لتسير...
لستَ وحدك
والغيومُ تشعُّ
بالضوء الحبيسِ في جوفها القطنيّ
للحظةٍ أخيرة
قبل أن تبتلعَها العتمةُ والظّلال،
كما يبتلعُكَ الخوفُ أحياناً
وأنتَ تُشِعُّ بأحلامِك
قبل انطفائِها في "سوبرنوفا" عظيم،
فيما طينُها ما زال عالقاً بأصابعِكَ
وحبالُها تتوسّلُ خطوتَك،
قبل أن ينهشَك التيهُ.
لستَ وحدك
حين تُضاءُ أوّلُ المصابيحِ في الليل،
حين تخفتُ الحركةُ في المدينة
حين تستيقظ النسمةُ الباردة
والزيزُ الليلي
والوخزةُ نفسُها في القلب،
وحين لا يجرحُ السماءَ سربُ العصافير العائدةِ إلى أعشاشِها في الغابة القريبة،
وحين لا يجرحُ الأرضَ
هذا المطرُ الذي ينزلُ بهدوءٍ
بلا وجعٍ،
وحين يجرحُك اللحنُ
وكلماتُ الأغنية
والدمعةُ المتجمّدةُ
التي ضيّعت طريقها إلى العالم...
لستَ وحدك،
والمُشاةُ يعبرون بك
كأنّك ظلٌّ غريبٌ
انفصل عن جسدٍ كان لك،
لستَ وحدك من فقدَ جسده
أيها الغريب،
ولستَ وحدك
مَن تصيبُه حيرة الطرقات،
وملمسُ الخشب في الجوف،
ولستَ وحدك
مَن تحت هذه المظلة الملوّنة
يصيبه البلل حتى ضلعه الأخير،
ومَن لفرط حزنه
يصبُّ هذا المطرُ
في قلبه.
ويا غريب،
لست وحدك
حين تتوقّف برهة عن المسير
وترفع رأسك للّيل الذي التهم السماء
لترى ذلك النجم
قد يكون سُهيل
وقد تكون الشعرى
لكنك لا ترى فيه إلّا وجهاً غائماً
محا نصفَه الغيابُ.
لا،
لستَ وحدَكَ
حين تتبع الطريق كأعمى،
تهتدي بصوت خفيّ
يُناديك باسمٍ لم تعد تعرفُه،
تهدّئ تعب المرايا
التي تضاعف الانعكاسات فيك،
وتمسح شروخ الكتمان الطويل
بقمر المساء...
ولستَ وحدك،
مَنْ توجعه عزلة الأصابع
وأشواك الزهر في الجلد
وهذه الشِّباك المُغْبرّة
التي ينسجها عنكبوت أسود كلّ ليل
لستَ وحدك
مَن يتمدّد على العشب تحت السماء،
يترك البرودة
تخترقه
كالسهم الأخير،
وهو يفكّر
كيف يمسح وجه الذكرى من الغبار
كيف ينقّي صوتها المبحوح
ويفصل يديها المشتبكتين بالوهم والأسطورة،
لستَ وحدك،
فكلّ شيء يشبهكَ
وكلُّ شيء يبدو الآن
كأنه يصطفي معناه فيك
يدعوك لتتوحّد معه في الصمت
فيما تكمل مسيرك
كالنائم
في هذا الموت الخفيف.
ويا غريب
صدّق أسطورة النسيان
ربما يجري في آخر هذا الجحيم
نهر الليثي العظيم
يُعيد ملامحك إليك
إنْ بلغتَه
قبل صبح جديد.
* شاعرة لبنانية مُقيمة في فرنسا