تقوى بن محمّد... نقد مُصوَّر لواقع إيطاليا

29 يونيو 2021
تقوى بن محمّد
+ الخط -

مَن يُطالع تاريخ إيطاليا خلال القرون الوسطى لا يمكن له إلّا أن يقف على صراع شهير دام أزيد من قرنين من الزمن، جمع فصيلين سياسيين، أرّخ لأحد أشهر صفحاته نيكولو ماكيافيلي ضمن "سيرة كاستروتشيو كاستراكاني اللوكي"، وسجّل دانتي اسميهما في النشيد الخامس من الجنّة في الكوميديا الإلهية: الغويلفي والغيبليني. الصراع المحموم الذي قسم إيطاليا بين فريقين متقاتلين لصالح جهات خارجية بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر ــ حيث يتبع الغويلفي للتاج البافاري، أما الغيبليني، فهُم مرتزقةٌ لدى سلالة هوهنشتاوفن الألمانية ــ عاد بعد ستة قرون وبعد معجزة الوحدة الإيطالية، ليتجدّد من خلال صراع آخر يقوده فصيلان يتقاتلان في إيطاليا بلا هوادة منذ ما يقارب القرن من الآن، اسماهما: ديسترا وسينيسترا.

وعلى الرغم ممّا يبدو عليه الأمر (أي الصراع التقليدي بين اليمين واليسار)، يُدرك أيُّ مراقب للساحة السياسية والفكرية الإيطالية أن اليسار الإيطالي يُعاني منذ سقوط الاتحاد السوفييتي من حالة من التيه والتشرّد، دفعته لاعتناق أفكار متناقضة سببُها نقلُ قِبلته من الشرق إلى الغرب وفقدانه بعد انتهاء الحرب الباردة لأي مرجعية أيديولوجية منضبطة. وهكذا بدأت عمليات استيراد التقليعات الفكرية من أميركا واستنساخها دون أيّ جهد معرفي، وهو أمر ساهم فيه مناخ العولمة المهيمن في العقدين الأخيرين. كما ظهر التماهي المطلق لسياسيّي اليسار الإيطالي مع كل الخرجات الإعلامية لـ"الحزب الديمقراطي"، وبلغ ذروته خلال الانتخابات الأميركية الأخيرة، حتى أن البعض وصف زعيمة اليسار الراديكالي لاورا بولدريني بأنها Cheerleader (مُشجِّعة راقصة) لبايدن، وهو الأمر ذاته الذي ينطبق على ماتيو سالفيني، زعيم حزب "الليغا" (أو "رابطة الشمال")، الذي كان يناصر ترامب على جبهة اليمين.

وعدا عن الشعارات العامّة حول النضالات العالمية، إلى جانب التأثّر حدّ البكاء بالمظالم الإنسانية خلال المهرجانات المتأنّقة والمظاهرات الراقصة، لا يعرف يساريّو الألفية الثالثة في إيطاليا ما الذي يعنيه تماماً مصطلح تصفية الاستعمار التقليدي، ولا ماهية الاستعمار الجديد، ولا أيّ شيء عن السياسات الاقتصادية النيوكولونيالية لأوروبا في دول أفريقيا، ولا عن الدور الإمبريالي الذي تلعبه المنظّمات غير الحكومية المموّلة غربياً في بؤر الصراع.

تمكّنت المؤلِّفة من تجاوز دور الضحية بجرأة ووعي

"في الحقيقة، نحن لا نملك يساراً. ليس اليسار الإيطالي إلّا يميناً معتدلاً"، هكذا وصف المخرج والموسيقي اليهودي موني أوفاديا اليسارَ الإيطالي، وهو يعلّق على مواقفه من الهبّة الفلسطينية الأخيرة، حيث وقف إينريكو ليتا، الأمين العام لـ"الحزب الديمقراطي" (اليساري)، جنباً إلى جنب مع ماتيو سالفيني زعيم "الليغا" (اليميني) على منصّةٍ واحدة في مظاهرة داعمة لإسرائيل. على صعيد آخر، وفي حلقة سُريالية من حلقات الصراع العجيب بين اليمين واليسار في إيطاليا، بصق اليمين في موقف تاريخي له على "الأمجاد الاستعمارية" لأوروبا حين سجّلت جورجيا ميلوني، زعيمة الحزب الذي يوصف بالفاشي، "فراتيللي ديتاليا"، خطاباً مدوّياً قبل سنوات دعت فيه فرنسا للخروج من أفريقيا والكفّ عن إفقار الأفريقيين في موطنهم الأصلي. "كان هذا ينبغي أن يكون موقف اليسار من الناحية النظرية، لكنّنا ــ ويا للغرابة ــ نحن مَن نقف في وجه فرنسا اليوم للدفاع عن حقوق الشعوب المضطّهدة". هكذا وصفت ميلوني بنفسها الحملة التي شنّتها على ماكرون في إطار رفضها لسياسات الهجرة الأوروبية، بينما بقي اليسار الإيطالي صامتاً وهو يتابع وقتها خطابات الزعيمة الفاشية المناهضة للنيوكولونيالية.

كل هذا التشوّش الحاصل في الساحة الأيديولوجية الإيطالية بين الفصيلين اللذين سئم الإيطاليون من تقاتلهما العبثي ــ وحاول تجاوزهما قبل سنوات قليلة من خلال حركة "تشينكوي ستيلّي" ــ لم يكن له إلّا أن ينعكس على الإنتاجات الإبداعية من طرفٍ ثالث لا ينتمي تاريخياً لأي جبهة، وسجّلته على نحو تراجيدي ــ كوميدي ريشةُ الرسّامة التونسية تقوى بن محمّد، من خلال رواية مصوّرة: "صديقي المفضّل فاشي"، التي صدرت حديثاً عن منشورات "ريزولي". الرواية التي تحكي جانباً من السيرة الذاتية للفنانة التي وصلت إلى إيطاليا بعمر الثامنة رفقةَ عائلتها، طرحت جملة من القضايا الحساسة التي صمت عنها طويلاً المهاجرون في إيطاليا، لا سيما المسلمون منهم، وعرّت التناقضات الفكرية التي يعاني منها المجتمع الإيطالي ومن خلفه كلّ المجتمعات الغربية.

الصورة
تقوى

انطلقت تقوى من البداية تماماً، حين كانت مجرّد تلميذة صغيرة، عايشت تحوّلاتٍ سياسية عميقة في العالم ــ لم تُدركها في حينها، لتجد نفسها فجأةً التلميذة المصطفاة لقراءة خُطَب تأبين ضحايا الإرهاب كلّ عام أمام جموعٍ متأثّرة من أولياء التلاميذ تصفّق لها بعيون مغرورقة بالدموع. "كنتُ أتساءل: لماذا أنا دوماً؟ لماذا لا تُلقي الكلمةَ جوليا، أو أندريا أو حتى مارتينا؟". إلى أن أخبرتْها المعلّمة بأن سبب اختيارها يعود لكونها مهاجرة ولأنها سمراء البشرة. هكذا، ببساطة، وكأن جميع المهاجرين كان عليهم بشكل أو بآخر، وحتى القُصّر منهم، تقديم اعتذارهم المتكرّر للعالم عن أحداث لا يدَ لهم بها.

هذا المشهد ــ الذي يختصر كيفية التلاعب بالأجانب وتوظيفهم في خطابات لا ناقة لهم فيها ولاجمل ــ يعرفه جميع المهاجرين في إيطاليا، كما يعلمون أن وضعهم في صدارة مشاهد معيّنة في الفن والأدب والسياسة وحتى في حفلات المدرسة لا يعني أن الأوروبيين يشعرون بتميُّزهم ولا أن الأمر برمّته سينعكس عليهم بأيّ فائدة. إذ غدا من المعروف أن التقليد الكولونيالي أصبح يقضي بوضع المهاجرين على الخطوط الأولى لمعارك الغرب المصيرية واستغلال الأجانب فيها لآخر رمق، على غرار ما فعلته فرنسا ضد ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث وجد المُجَنّدون الجزائريون أنفسهم يخوضون أشرس المعارك ضد النازية في الصفوف الأولى، وكان جزاؤهم بعد تحقيقهم النصر جزاءَ المهندس البيزنطي سنمار، وهو نفسه جزاء المهاجرين اليوم في أوروبا بعد الحملات الانتخابية الرنّانة لليسار: "بْلا بْلا بْلا".

هكذا وصفت تقوى تلك الخطابات المدرسية التي كانت تُلقيها، والتي كانت تتحدّث عن السِّلم في العالم. إذ عادةً ما يُوَظَّف المهاجرون في حملات انتخابية دون أن يحصلوا ــ بعدَ الاستغلال الإعلامي لخلفيتهم العرقية والدينية ــ على أيّ مقابل عملي سوى التصفيق من ناظرة المدرسة، ليكون نصيبهم الإهمال الكلّيّ بعد انتهاء الحفلة. ذلك أنه وعلى العكس من قانون تجريم "الهوموفوبيا" مثلاً ــ والذي تقدّم به اليسار ومرّره في البرلمان بخطوات إجرائية ملموسة منذ أشهر في إيطاليا ــ بقيت "الإسلاموفوبيا" منذ سنوات حبيسةَ التنديد الصوتي العقيم لسياسيّي اليسار ومثقّفيهم وخطاباتهم الفارغة.

تعطي درساً للإيطاليين في نبذ تخندقاتهم وحروبهم الداخلية

الخطابات الفارغة التي لا تنبع عن أيّ وعي، كانت ثيمةً تطرّقت لها تقوى بجرأة شديدة من بوّابة النِّسوية. حيث روت الرسّامة التونسية الإيطالية كيف كانت معلّمة الرياضيات تُمطرها بخطب لا تنتهي عن حرية المرأة، غامزة من قناة حجابها الذي بدأت بارتدائه بمحض إرادتها في سن الرابعة عشرة: "المرأة تُصبح حرّة عندما تتحرّر من هذه الأسمال التي فرضها عليها المجتمع الأبويّ". "كنتُ أعتقد أن الحرية تعني أن نقوم بخياراتنا الشخصية في الحياة"، ردّت تقوى في أحد المشاهد. "خياراتك هذه إهانة للنسوية... شتيمة لعقود من النضال ضد الأعراف البطريركية والذكورية. اخلعي هذا الحجاب ولا تعودي له مجدداً". تضع تقوى القارئ أمام حركة أصبحت في السنوات الأخيرة مظلّة لأيديولوجيات متعدّدة وانعكاساً لرؤى متصارعة في ما بينها. ويكفي أن نعلم أن أبرز وجوه الحركة النسوية في إيطاليا هي الصحافية الشهيرة التي ناضلت ضد الحكم الفاشي أوريانا فالاتشي، والتي عُرفت في نهاية حياتها بكراهيتها الشديدة للمسلمين، ووريثتها حالياً في النضال ذاته الصحافية جوليانا سغرينا، التي تتميّز هي الأخرى بخطابٍ نِسويٍّ ـ شيوعيٍ ـ إسلاموفوبيٍّ صارخ.

ولكن أين هي الفاشية من معاناة تقوى في كلّ هذه القصة؟ "إيهههي، كيف تسمحين لنفسك بتجاهلي في هذه القصّة؟"، صاح ماركو "الفاشي"، زميل تقوى، في وجهها بينما كانت منهمكة في شرح معاناتها مع معلّميها في المدرسة. "فعلاً؟ ومَن أنت؟"، ردّت متعمّدةً إغاظته. "أنا عدوّكِ اللدود. ألا تذكرين؟ أنتِ تجرحين مشاعري!". "اخرسا أنتما الاثنان"، تعود معلّمة الرياضيات النِّسوية لتتسيّد المشهد، وتعود تقوى لوصف جحيمها معها: "لقد كانت غولةً حقيقية تلك المعلّمة... لا تكفّ طيلة الحصّة عن التحديق بي". هكذا تختصر الفنانة التونسية الإيطالية، ببراعة شديدة، المعاناة الحقيقية التي يعيشها المسلمون وسط تحديقٍ متواصل وإملاءات لا تتوقّف من معلّمي الحرّية وأساتذة الديمقراطية في العالم.

على الضفّة الأخرى، واصلت تقوى استراتيجيتها الكوميدية في تجاهل "الفاشي" ماركو، زميلها في المدرسة، طيلة صفحات الرواية، من خلال رسمه كظلٍّ في العديد من المشاهد والإشارة إليه بسهم صغير تحت مسمّى: "كينونة ماركو العبثية"، وذلك بالرغم من أنه كان يشاركها الطاولة نفسها، بعدما أجبرتهما المعلمة على الجلوس جنباً إلى جنب. ماركو وتقوى كانا يكرهان بعضهما بعضاً بشكل مسبق، ويتبادلان الشتائم باستمرار، فهو كان "المتخلّف عديم الذوق" بالنسبة إليها، وهي كانت "الإرهابية الطالبانية" بالنسبة إليه. أمّا بالنسبة إلى المعلّمين، فكان كِلاهما فاشلاً في الدراسة، وهذا كلّ ما كان يجمعهما. كلّ ذلك قبل أن يطرأ حادثٌ مفصليّ في حياة البطلة، حين تعرّضت، بسبب حجابها، لاعتداءٍ لفظيّ قاسٍ في حافلةٍ عندما كانت في طريق عودتها إلى البيت، لتروي لزميلاتها في اليوم الموالي ما حصل لها بعدما بدت عليها علامات البكاء طيلة الليل.

تقوى، وبعد خروجها من الصفّ ذلك اليوم، وجدت ماركو في انتظارها عند بوابة المدرسة. "تقوى، لا أريدك أن تعودي للمنزل بمفردك، سأرافقك أنا". هكذا مدّ ماركو يده لتقوى، وبعد رحلة أولى صامتة على متن الحافلة، نشأت بينهما علاقة صداقة قوية. "لدي الكثير لأقوله لكِ"، "وأنا أيضاً"، ليبدأ بعدها الحوار وتبادُل الأفكار والصداقة. "تحدّثنا طويلاً وتجاوزنا أحكامنا المسبقة، تعلّمنا ألّا نقف عند ما يُقال في وسائل الإعلام... تغيَّرنا أنا وهو. وأخيراً يراودني شعورٌ رائع بالحرّية. تحرُّري من الأفكار المسبقة... لأنني كنت أيضاً مخطئة. فالجدار بيني وبين ماركو بنيناه معاً. أمّا الآن فأنا أرى العالم على نحوٍ مختلف. وأرى الآخر من منظور جديد".

بهذا تسجّل تقوى بن محمد اختراقاً مُدويّاً في خطابات الهجرة، تمكّنت فيه من تجاوز دور الضحية بجرأة ووعي، رافضة التحوّل لبيدق في أيدي أيّ فصيل أو خوض معارك بالوكالة عن أيّ أحد، بل قدّمت من خلال روايتها المصوّرة نموذجاً حرّاً ومتحرّراً من لغة الصراعات الأبديّة، وأعطت من موقعها الهويّاتي درساً للإيطالي والغربي في نبذ تخندقاته وحروبه الداخلية قبل الخارجية. فهل سيقبل الإيطاليون الدرس؟

"بصراحة لا". بهذه الكلمات راسلتْ قارئةٌ إيطالية (من أحد الفصائل المتقاتلة) الفنّانةَ على مواقع التواصل بعد صدور كتابها: "رسالةُ كتابِكِ خطيرةٌ ومضلّلة، وعنوانك تجاري، قليل الذوق ولا ينمّ عن أيّ احترام لضحايا الفاشية... أنصحكِ بدراسة التاريخ يا آنسة"، هكذا ختمت القارئة رسالتها. ولا تزال حرب الغويلفي والغيبليني في إيطاليا القرن الواحد والعشرين متواصلة.


* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا

المساهمون