تحلُّ في هذا الشهر ذكرى تأسيس الجمهورية التركية عام 1923. ومِن المعروف أنَّ هذا التاريخ يُمثّل نقطة تحوُّل مهمّة في التاريخ الثقافي المشترَك للعالمين التركي والعربي؛ حيث تبنّت الجمهورية التركية الوليدة سياسة القطيعة مع الثقافة العربية، بقيادة زعيم دولة الحزب الواحد آنذاك، مصطفى كمال أتاتورك، الذي اتّخذ خطوات عديدة في هذا السياق أدّت إلى عزل تركيا عن محيطها العربي، متجهاً بها نحو الغرب.
في سبيل ذلك، لم يقُم أتاتورك باستبدال الحروف العربية بحروف لاتينية ومحاولة تصفية التركية من العربية والفارسية فقط، بل منع أيضاً تدريس الموسيقى الشرقية في "دار الألحان" والاستماع إليها في الأماكن العامّة، باعتبارها أحد مظاهر "العهد العثماني البائد"، وكان هذا الأمر على رأس أولويات أتاتورك، مثل مسألة اللغة، لأنه كثيرا ما كان يُردّد أن الموسيقى معيار الحضارة.
"العربي الجديد" طرحت سؤالاً على عددٍ من الكُتّاب الأتراك عن رؤيتهم لهذه السياسة بعد عقود، وتصوّراتهم حول العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الثقافتين اللتين شهدتا تاريخاً مشتركاً لما يقرب من ستمئة عام.
مُجيباً عن هذا السؤال، يقول الشاعر عمر أردام: "في هذه الفترة المقصودة، أي فترة الجمهورية، لم تبتعد الثقافة التركية عن الثقافة العربية فقط، بل أدارت ظهرها لمصادر الثقافة التركية نفسها. لقد كانت الثقافة التركية أوّلاً توليفة فعّالة من الثقافة العربية والفارسية والتركية، وبعض الثقافات الأُخرى، ولكن ليس بنفس قدر تأثير العربية والفارسية، حتى على مستوى اللغة. الذي حدث في فترة الجمهورية، مع "التغريب"، هو توجيه هذه التوليفة نحو الغرب فقط. اتّخذت تركيا من هذه الدول مثالاً لها، فأصبحت الفرنسية لغةَ النخبة، والألمانية لغةَ الحياة العسكرية. ومن وجهة نظر الأيديولوجيا الجديدة التي جاءت مع نشأة الجمهورية التركية، كان ينبغي لعن الجذور القديمة من أجل وجود ثقافة جديدة. وهذا هو سبب الابتعاد عن الثقافة العربية".
يضيف أردام: "لا يمكن أن نقول إنّنا تجاوزنا هذا الأمر اليوم، إلّا أن الأسباب اليوم مختلفة. وبحسب رأيي، فإن الطرفَين؛ العربي والتركي، إذا لم يهتمّا برفع قيمة الديمقراطية في العالمَين العربي والتركي، فإنهما لن يستطيعا أن يُنتجا شيئاً مُهمّاً في علاقتهما. هناك جيلٌ عند كلّ من الطرفَين أصغر سنّاً وأكثر انفتاحاً على العالم، لكن الحياة الثقافية لا يمكن أن تُغذّي بعضها البعض حتى اليوم، لأن العلاقات القائمة على السياسة تصبح علاقات مُوجّهة وهشّة. إذا كان الأمر بيدي، فسوف أعمل على زيادة عدد المثقّفين الذين يتحدّثون بالعربية والتركية، وباقي الأشياء سوف تأتي بعد ذلك تدريجياً، لأن اللغة تولّد الأفكار".
نحاول أن ننفتح على الشرق بقدر انفتاحنا على الغرب
من جهته، يرى الشاعر والأكاديمي أتاكان ياووز، في حديثة إلى "العربي الجديد" أنّ التباعد بين الثقافتين العربية والتركية يعود إلى ما يقرب من 300 عام، قبل تأسيس الجمهورية التركية، أي مع حملات التغريب. لكنّه يلفت إلى أنَّ هذا التباعد اتّضحت ملامحه مع تأسيس الجمهورية، مضيفاً: "إذا تحدّثنا من زاوية الأدب، فإن سبب هذا التباعد هو أن التركيبة اللغوية العربية والفارسية كانت ثقيلة على اللغة التركية بأبجديتها اللاتينية الجديدة. لقد كانوا يرون، وقتها، أنّ هذا التباعُد هو خطوة ضرورية من أجل تحديث الدولة والمجتمع والأدب".
يردف: "أثناء عملية التحديث، وإلى جانب تصاعد الموجات القومية، فقد تباعدت الثقافات عن بعضها البعض، وانغلقت على نفسها وصارت ثقافات فقيرة؛ لأنّ الثقافة تتقدَّم بالتأثيرات الخارجية، وهي عبارة عن توازُن بشكلٍ ما بين الفن وثقافة الشارع. فإذا نظرنا إلى رواية "مقام الماهور" للروائي التركي أحمد حمدي طانبينار، ومهما كان محتوى الرواية غريباً علينا، فإنّ النظرة العامّة فيها تعود إلى ثقافتنا؛ فقد تعرّف الأتراك على الإسلام من خلال دراويش الشيعة، ثم صارت علاقتهم بلغة القرآن أكثر من الثقافة العربية بمعاناها الأشمل. لقد تأثّروا بالثقافة الإسلامية، لكن ثقافتهم المحلّية ظلّت مستقلّة دائماً".
ويضيف ياووز: "في الواقع يجب أن ننظر إلى هذه القضية من زاوية أن الثقافات العربية والتركية والفارسية كانت دائماً ثلاث ركائز مهمّة للحضارة الشرقية، وكان التبادلُ الثقافي بينها أكثر كثافةً قبل عصر الحداثة. بعد ذلك تباعدت الثقافات كنتيجة طبيعية لسياسات النظام العالمي الإمبريالي الجشِع والعدواني. وكان على الجمهورية التركية أن تكون أمّة لها انتماء مثل كل الدول الحديثة، وكان عليها أن ترسم حدوداً لثقافتها، وأن يكون لمواطن هذه الجمهورية لغته الخاصة. لقد حدّدنا هويتنا الثقافية مثلما خَطّط ضياء جوك ألب إلى حد كبير، في محاولة للرجوع إلى مصادر ثقافتنا الأساسية، بدلاً من الخليط بين الثقافتين العربية والفارسية".
ويستطرد: "في ذاك الوقت، وجدنا أنّنا نُعيد اكتشاف الأناضول من جديد، مثل إعادة اكتشاف يونس إمرة الذي ظلّ نائماً لخمسمئة عام. وأتصوّرُ أن العرب عانوا من الأمر نفسِه مثلنا تماماً، لأنّ النظام الذي بُني بعد الحرب العالمية الأولى كان مبنياً على القومية العرقية الانتقائية".
ينبغي أن تتواصل الثقافتان في مساحة حرّة غير مؤدلجة
وعن التواصُل بين الثقافتَين التركية والعربية اليوم، يقول ياووز: "لا أعلم إن كان هناك أي تواصُل اليوم مع الثقافة العربية غير المسلسلات. ومع ذلك فقد نشرنا حديثاً ترجمة للمعلّقات السبع (بترجمة محمد حقي صوتشين، عن دار كرمزي كيدي)، ونحنُ نحاول أن تكون الثقافة التركية منفتحةً على الشرق بقدر انفتاحها على الغرب. لقد أصبح من الممكن أن ترى اليوم في المجلّات الأدبية التركية مجموعة أشعار لشعراء عرب، لكنّني لا أعرف إن كان هناك ما يشبه ذلك في العالم العربي اليوم".
وحول تصوُّره لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الثقافتين اليوم، يقول: "الأدب الجيّدُ هو الأدب المنفتح على العالم، ولكن يجب ألّا ننسى أن نكون ملمّين بثقافتنا جيداً. وظيفة الأدب هي الوصول للإنسان من خلال تجاوز أي هوية تفرضها سلطة استبدادية أو أخلاق غير إنسانية أو أيديولوجية ضيقة. الأدب يرى ما بعد الحدود، ويحاول أن يلمس الإنسان الوحيد في الحياة التي تحاصره. ومن قبيل المصادفة، أنا أقرأ الآن، رواية لكاتب مصري من أصل شامي قضى أغلب حياته في باريس، يتناول محاولة تمسُّك الفقراء ببعضهم البعض بالحب والصداقة والعمل تحت وطأة العالم الحديث. وهذا يجعلنا نفهم أنَّ الحدود تُزال مع الفن، وأنّنا بالفعل عائلة كبيرة".
ويُعلّق الشاعر دولوناي أكير على هذه المسألة في حديثه إلى "العربي الجديد" بالقول إنَّ "الثقافة ليست علاقة مصطنعة. وكل شعب يبني ثقافته بلغته، ويتواصل مع الشعوب الأُخرى من خلال هذه اللغة. ولذلك يجب أن يكون التواصل في مساحة حرّة تماماً، بعيداً عن السياسات والأيديولوجيات. وفي رأيي، فإن التباعد الذي حدث بين الثقافتين أفقدهما الكثير حتى الآن. وبالتأكيد لا ذنب للشعوب في ما حدث، لأن الأنظمة السياسية هي التي تتحمل مسؤولية ذلك".
يضيف: "لكن رغم كل ما حدث من قطيعة بيننا في الماضي، فماذا الذي يجعل محمود درويش محبوباً إلى هذا الحد عند كثير من القرّاء الأتراك؟ ولماذا تعني لنا فيروز شيئاً فريداً؟ ولماذا تخلق فلسطين دلالات مختلفة في قلوبنا وعقولنا؟ الجواب ببساطة لأننا نعاني من نفس الأوجاع والدمار، باختصار إنّنا تاريخ مشترك لمئات السنين، وإذا لم يدرك مثقّفو الطرفين هذا الأمر فستكون خسارةً كبيرةً لكلتا الثقافتين".
يختتم أكير حديثه بالقول: "لديَّ تجربة خاصة في هذا السياق؛ فقد عشت طفولتي بين اللغتين؛ التركية والعربية، بحكم نشأتي في مدينة أنطاكية، ورغم أنّني لست من أصول عربية، مثل كثيرين في هذه المدينة، إلّا أنني أرى العالم من خلال هاتين اللغتين، وأحلم دائماً بعلاقة أكثر عمقاً بين الثقافتين، ولكن أؤكّد على أنّ هذا يجب أن يتم في مساحة حرّة. وأخيراً، أتمنّى أن تنتج العلاقات الجديدة بين العرب وتركيا مشاريع ثقافية حقيقية، تساعد على بناء جسور التواصل بين الثقافتين من جديد".