الكتابة حضور في الوجود يتجسَّد في نصوص يُنظَر إليها بصفتها أثرا يُحيل إلى مُؤلِّفه (لنتذكَّر المؤلَّفات المدرسية التي تَرِد طيَّها نصوصُ بعض الكُتَّاب ونبذة سيرية لهم ضِمنها آثارُهم، أي مؤلَّفاتهم)، ويترك أثرا في قارئه، الذي قد ينفعل به أو يتفاعل معه في صيغ شتى. ونظرا لنُدرة حامِل الكتابة كالجِلد قديما، فقد كان القدماء يَلجؤون إلى مَحْوِ تلك النصوص بعد حِفظها في ذاكرتهم لاستظهارِها لاحقا؛ هكذا كانتْ نصوصٌ أخرى تَشغَل حيِّزَ سابِقَتها، دون أن يختفي أثرُ الأولى المادي تماما، وهو ما يمتدّ ليَطُول الإرثَ الشفهي كذلك، الذي يُمكن استخلاصه من نصيحة الراوية خلف بن الأحمر للشاعر أبي نواس، التي اشترط فيها الأوّل على الثاني مَحوَ محفوظِه من ذاكرته ليَعْثر على صوته الخاص.
وليست الترجمة بصفتها قضية الأدب أيضا - بالإضافة إلى أنها قضية الفلسفة في الوقت ذاته - مثل ما يؤكد عبد السلام بنعبد العالي- بمعزل عن إشكال المحو، بل إنّ الكثيرين قد يذهبون إلى أنها بإعادة كتابتِها النصوص في غير لغتها فإنها تضمن لها وجودا مضاعَفا، لكونها تجعلُها تصمد أمام زحف التلاشي، طالما أن "تكرار كتاب موجود سَلَفا في لغة أجنبية -وفق جورج سْتاينر- هو "الواجب الغامض" للمترجِم، وفي ذلك يَبذُل قُصارى جهده." ولهذا يُصرّ بعضُ المهتمّين بالترجمة على تعريفها بكونها رهانا لمَحْو المسافة بين الأصل وصُورتِه.
والحقيقة أن المحو شيءٌ مُستحيل، خصوصا في مجال الكتابة حيث تَحضُر اللغةُ برصيدها المعرفي والفني والنفسي، وقد أكَّد ذلك ج. ستاينر لما نبَّه إلى أن "اللغة فِعلٌ تعبيري يُلتَقط في الزمان، ولا شيءَ يمكن أن يُمْحى منه، وأن الممكن فقط هو إنكارُه أو مُناقَضَته". ويبدو أننا لا ننتبه إلى أننا مَهما سعيْنا إلى إسكات صوت القراءة، التي تمثِّل الترجمة جزءاً منها، فإننا نُفاجَأ بأثر ذلك الصوت يطفو على فِكرنا ولغتنا وكتابتنا؛ فعند حديثنا أو كتابتنا تتسرَّب إليهما أفكارٌ وتشبيهاتٌ وأمثال وصيغٌ تعبيرية إلخ... فنتصوَّر أنها مِلكنا، بينما هي في الواقع حصيلةٌ لقراءتنا ولمَعيشنا الثقافي في صفحات محلية وأخرى أجنبية. ولم يَنْجُ من هذه الحال كبارُ الكُتّاب، الذين يحدُث أنْ تَحجُب عنا شهرتُهم وكذلك خيالُهم الجبَّار، اللذان يخلقان منهم سُلطةً، الروافدَ التي نهل منها إبداعهم، أو استلهموا منها قضايا وتقنيات وجماليات وحساسية تميِّزهم عن سواهم.
مهما سعيْنا إلى إسكات صوت القراءة فإنه يطفو على كتابتنا
ويتهيّأ لي أن أبرز هؤلاء الكُتَّاب العالَميين، الذين أفلحوا في أن يُعطوا للمحو معنى وقيمة في مضمار الكتابة من خلال التوسُّل بالترجمة، الأرجنتينيُّ خورخي لويس بورخيس، الذي نَعْلم أنه دخل إلى عالم الكتابة من خلال بوابة الترجمة، وأنه كان من أشهر المدافعين عن فكرة التساوي بين الترجمة وأصلها، بل إنه ذهب إلى حدِّ امتداح تفوُّقِها أحيانا على ذلك الأصل، وتلك لعمري رؤية يتفرَّد بها صاحب "الألف".
لقد مكَّنتني ترجمتي مؤخَّرا لمجموعات قصصية لبورخيس، ستصْدُر قريبا عن دار الجمل ببيروت، من الوقوف على فرادته السردية، التي لا يختلف حولها كبارُ النقاد والدارسين، ومن الانبهار بتنوُّع مصادره في الكتابة الأدبية، التي تتوزَّع بين المَعيش المحلَّي كما في كتابه "التانْغو: أربع محاضرات" (الذي ترجمتُه ونشرتْهُ دار الجمل مؤخَّرا)، والقراءة في اللغات الأخرى باعتماده الفرنسية والإنكليزية اللتين كان يُتقنهما إضافة إلى الإسبانية لغتِه.
ما يُدهش في قصص بورخيس هو قراءتُه النهمة للأعمال الكبرى وللحكايات الشعبية وغيرها، لكنّ اللافت في كتابته أيضا هو قدرته على استيعاب ذلك المقروء في مُنجَزه السردي، وصهره إيّاه في نصوصه، إلى درجة محوه تلك الأصول، فتنتهي بصفتك قارئا إلى اقتناعٍ بأنك بصدد قراءة نصوص مترجَمة، اجتهد مؤلِّفها في إقامة سَداها بإحكام، وأنه أبدع في ترجمة المحو، مثلَ ما يُستشفّ من قصِّته "الملِكان والمتاهتان".
* أكاديمي ومترجم من المغرب