ترافقت الذكرى السنوية الأربعون لرحيل الروائي اليوغسلافي المعروف ميشا سليموفيتش (1910 - 1982) مع حدث لم يتمّ التوقف عنده: صدور ترجمة جديدة في العربية لروايته "الدرويش والموت" عن دار نشر "وسم" الكويتية، وهي واحدةٌ من أكثر أعماله ترجمةً إلى لغاتٍ أُخرى. وفي الحقيقة، جاء الكشف عن هذه الترجمة الجديدة في الأيام الأخيرة من السنة التي تحمل ذكرى وفاته الأربعين، إذ نشرت "العربي الجديد" (عدد 26/ 12/ 2022) لقاءً مع المترجم السوري الحارث النبهان (1961)، المقيم في بلغاريا، ورد فيها أن آخر ما صدر له من ترجمات كانت "الدرويش والموت" لميشا سليموفيتش، وذلك "في خريف 2022".
في هذا اللقاء مع المترجِم، الذي يقول إن ترجماته قاربت السبعين، يبدو من العناوين أن الترجمة من الإنكليزية، وربما تكون له ترجمات من البلغارية لم يكشف عنها. ولكن، بغضّ النظر عن كون الترجمة الجديدة من الإنكليزية أو من البلغارية (التي تنتمي إلى مجموعة اللغات اليوغسلافية)، فإن هذه المعلومة التي جاءت عرضاً في المقابلة معه لم تُثر مسألة في غاية الأهمية شملت ميشا سليموفيتش وغيره: ألا وهي تعدُّد الترجمات لأعمالهم في اللغة العربية دون أي مبرّر واضح من قِبَل المترجم الثاني أو الثالث للعمل نفسه. فالأصل في المترجم والناشر أن يكونا عارفين بما هو مترجم وموجود في السوق، خاصّةً إذا كان الأمر يتعلّق برواية معروفة تُرجمت عن لغتها الأم وصدرت في عدّة طبعات على مدى عدة عقود، كما هو الأمر مع "الدرويش والموت". أما أن تصدر ترجمة جديدة للرواية عن غير لغتها الأم، فهذه مسألة شائكة على الفهم، لكنّها تعبّر عن حالة الترجمة في العالم العربي.
الأمر هنا يتعلّق بكاتب معروف في يوغسلافيا السابقة وأوروبا، بخاصّة بعد أن تُرجمت روايته إلى لغات عديدة وتحوّلت إلى فيلم سينمائي، بل إنه لا يقلّ قيمةً عن إيفو أندريتش الذي خدمته السياسة في شهرته أكثر من ميشا سليموفيتش، مع أن كليهما جاء من البوسنة (الأوّل كان يُخفي أنه كرواتي كاثوليكي والثاني كان لا يخفي أنه صربيّ مسلم) إلى بلغراد بعد الحرب العالمية الثانية، حين أصبحت عاصمة ليوغسلافيا الجديدة المنفتحة على الشرق.
روايته "الدرويش والموت" أول كتاب عُرّب من الصربوكرواتية
وبعد انهيار يوغسلافيا التيتوية في 1991 وانزياح الغطاء السياسي عن بعض الكتّاب بقي سليموفيتش مقروءاً في جمهوريات يوغسلافيا السابقة. وهكذا، كان من المفاجئ أنه في الذكرى العاشرة لانهيار يوغسلافيا التيتوية (2001) قامت مجلّة "سلوبودا بوسنا" ــ التي تصدر في سراييفو ــ بمبادرة تواصلت فيها مع أهمّ النقّاد في جمهوريات يوغسلافيا السابقة لاختيار قائمة بأهمّ عشر روايات صدرت في يوغسلافيا خلال القرن العشرين. وقد كان من المفاجئ مجيء دانيلو كيش في المركز الأوّل مع روايته "ضريح لبوريس دافيدوفيتش"، بينما جاء في المركز الثاني ميشا سليموفيتش مع روايته "الدرويش والموت"، وفي المركز الثالث إيفو أندريتش مع روايته "جسر على نهر درينا".
مصداقية الترجمة الأولى
كان صدور الترجمة العربية الأولى للرواية في القاهرة، عام 1971، عن "الهيئة المصرية العامّة للكتاب"، حدثاً ثقافياً لأكثر من سبب. فمع العلاقة الجديدة التي تطوّرت بين يوغسلافيا التيتوية ومصر الناصرية تحت مظّلة "عدم الانحياز" حدث في يوغسلافيا انحياز كبير للأدب العربي، حيث ترجمت أعمال لحوالي خمسين كاتباً (طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم) من الفرنسية والروسية أوّلاً ثم من العربية، مع ظهور الجيل الجديد من المستشرقين اليوغسلاف. بينما جاء صدور رواية إيفو أندريتش "جسر على نهر درينا" عن وزارة الثقافة والإرشاد القومي في القاهرة عام 1960، بترجمة سامي الدروبي عن الفرنسية ومراجعة يوسف مراد.
وكما بدأ الأمر في بلغراد، فقد أدّت العلاقات بين يوغسلافيا والبلاد العربية إلى ظهور جيل جديد من المترجمين كان من ثماره الأولى ظهور الترجمة العربية لرواية ميشا سليموفيتش "الدرويش والموت" بتوقيع كلّ من حسين عبد اللطيف وأحمد إسماعيلوفيتش.
وكان صدور هذه الترجمة حدثاً ثقافياً لكونها كانت أول رواية يوغسلافية تُترجَم إلى العربية مباشرةً من اللغة الأم (اللغة الصربوكرواتية، كما كانت تُسمّى آنذاك) ولكونها تجربة مشتركة ساهم بها عربيّ تعلّم الصربوكرواتية في يوغسلافيا وبوسنيّ تخرّج من "الأزهر" بدكتوراه في الأدب نُشرت له بعنوان "فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر" وأصبح بعدها شخصية مهمّة في البوسنة حتى وفاته في 1985.
لا علاقة لتعدّد ترجمات سليموفيتش بتجويد ما هو موجود
ونظراً للاستقبال الجيّد الذي حظيت به الترجمة والرواية، فقد أعيد طبعها في طرابلس الغرب عام 1981 لدى "قطاع الكتاب والتوزيع والإعلان"، ثم عادت إلى القاهرة لتصدر عن "المركز القومي للترجمة" في 2014 وبعدها في طبعة رابعة عن "المركز" نفسه في 2018، وقد تميّزت هذه الطبعة بمقدمة ضافية لمصطفى رياض، وهي الطبعة التي لا تزال نسخها في المكتبات أو معروضة في شبكات بيع الكتب. ومن هنا يعود السؤال: كيف يمكن تجاهل مثل هذه الترجمة وإصدار ترجمة جديدة عن لغة وسيطة من دون أي ذكر للترجمة الأولى أو تبرير للترجمة الجديدة؟
تعدُّدية الترجمة في الدولة الواحدة
ويبدو أنّ حظّ ميشا سليموفيتش في العالم العربي لا يقتصر على تعدّدية الترجمة للرواية الواحدة ما بين القاهرة والكويت خلال عهد زمني طويل يتجاوز خمسين سنة (1971-2022)، وهو ما قد يكون مبرّراً ــ كما هو مع رواية "الشيخ والبحر" لإرنست همنغواي ــ إذا كان من اللغة الأمّ وبهدف تجويد الترجمة.
ولكنّ الأمر تكرّر مع روايته الأخرى الشهيرة "القلعة"، التي تَرجمت اغترابه عن السلطة الشمولية التي حارب لأجلها في شبابه وتُرجمت إلى لغات أوروبية عديدة. فقد صدرت في عمّان عام 2008 عن وزارة الثقافة بترجمة إسماعيل أبو البندورة عن اللغة الأم (الصربوكرواتية)، بينما صدرت عن دار نشر "خطوط وظلال" عام 2021 في عمّان بترجمة جديدة عن الإنكليزية بتوقيع أسامة إسبر. وكانت المفاجأة هنا أنّ مدير الدار لم يكن يعرف، خلال زيارتي له، أنّ هذه الرواية كانت قد صدرت مترجمة عن اللغة الأم عن وزارة الثقافة، التي تكون كتبها عادةً مدعومة وتُباع بسعر مقبول.
إنّ هذه المعطيات تشكّل، من ناحية، مادّة مناسبة لورقة ندوة عن تعدّدية الترجمة للأعمال الأدبية، سواء من اللغة الأم أو من لغات أخرى، ولكنها تطرح، أوّلاً وأخيراً، قضية الفوضى الموجودة في السوق ومسؤولية الجهات المختصّة بذلك.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري