"تراكُم" في القاهرة.. كشفٌ تشكيليّ عن طبقات المدينة

27 يونيو 2023
جانب من المعرض
+ الخط -

أن تكون مدينة بحجم القاهرة موضوعاً للتشكيل الفنّي، فهذا تحدٍّ وإلهام في الآن نفسه. فبالنظر إلى اسمها وتاريخها العريق، نجد أنّها طالما كانت محطّ اهتمام فنّي بالفعل؛ ذلك لما تحتويه من عمائر، ومعالم أثرية، تُشكّل مع حركة السكان والناس فيها نسيجاً حيوياً، عُبّرَ عنه بأدوات وأساليب مختلفة في العصر الحديث، بداية من لوحات المُستشرقين، مروراً بالحركات التشكيلية خلال القرن العشرين، وصولاً إلى اليوم. كأننا في كلّ ذلك أمام طبقاتٍ مُتراكمة من المدينة يُكشَف عنها شيئاً فشيئاً.

هذا ما يلتفت إليه كلٌّ من الألماني بيتر بلوداو والمصرية عزّة عزّت في معرضهما المُشترك، الذي يحمل عنوان "تراكُم"، ويتواصل في "غاليري آكسس" بالقاهرة، حتى الثالث من تمّوز/ يوليو المُقبل. لكنْ، هل يكفي الاشتراك بالعنوان، ومكان العرض، لنقول إننا أمام قاهرة واحدة؟ أم أننا أمام نظرَتين/ مدينتين مُختلفتَين حقّاً؟

الصورة
من لوحات بيتر بلوداو - القسم الثقافي
من لوحات بيتر بلوداو في المعرض

تبدو لوحة بلوداو التقاطةً سريعة لمشهد يومي سريع هو الآخر، حيث العمارات مُظلَّلة بقدَرِها الرَّمادي تحت سماءٍ تُشبِهُها؛ مشهدٌ ألِف الجميع رؤيته، إلّا أنّ تنبيهات الفنان اللونية ــ كحُمرة غروب خفِيّ، وابيضاض ضوءٍ نهاريٍّ مُتوارٍ ــ تُذكّر بأنّ هناك خلفيّة طبيعية تتحكّم بنظام الألوان. بالتأكيد، ليس هناك من مشهد طبيعي على الطريقة الانطباعية الصامتة مثلاً، إلا أنّ القدرة على الشعور بها تكمن في خفائها ذاته.

وُرَشٌ، وأفرانٌ، وعمّالٌ مُياومون، ومدابغٌ وشوارعٌ، وأبنيةٌ، يجمعها وَقْعُ تخطيطات الحِبر والألوان المائية على الورق؛ وبقدر ما تجسّد هذه الضَّربات الرشيقة مفهومَ العبور الإنساني في الحياة، إلّا أنها توثّق، بشكل أو بآخر، مَعالِم مهدَّدٌ بقاؤها، سواء من قِبَل سيادة نمطٍ عمرانيّ مُتسارِع، أو من كون ما تشهدُه المدينة نفسها من عمليات ردم وإزالة. وبذلك تتحرّر الالتقاطة من صفتها المُلازمة لها ــ أي أنّها سريعةٌ وعابرة، فحسب ــ لتصبحَ تمثيلاً جمالياً قوياً، يشهد ويتأمّل بعُمق في حال المدينة وطبقاتها الشعبية.

الصورة
من لوحات عزة عزت - القسم الثقافي
من لوحات عزّة عزّت في المعرض

هذا عن قاهرة بلوداو. أمّا قاهرة عزّت، فقطعةٌ هندسِيّة تفيضُ منها التقاطيع والزوايا الحادّة، بقدر ما يُشكّلها الحِبر الأسود بسيولته. تغيب، في لوحة التشكيلية المصرية، الجماليات الكلاسيكية عن المدينة، ويظهر أمامنا واقعٌ حديثٌ وراهنٌ، بيد أنّه قاسٍ جدّاً.

هذا ما تُترجمه من خلال الكتلة الصلبة، التي تعتمدها في أغلب لوحاتها، وكأنّها تنحت منها، خصوصاً عندما ننظر إلى أسطح العمارات، فنجدها لا تقلّ اكتظاظاً عن المساحات الأرضية، المُحاصَرة بالصحون اللّاقطة وأبراج الإعلانات. مع ذلك، يخترق هذه الكتلة، أحياناً، وجهٌ بشَريٌّ هدَّه التعبُ، أو طفلٌ هارب بدرّاجته في شارعٍ خلفي.

إذاً، هل هذه هي القاهرة الجميلة التي حدّثتنا عنها لوحاتُ المستشرقين، وأشعار الرومانسيِّين؟ بالتأكيد لا، فقاهرةُ "تراكُم" هي عبارة عن مُعاينةٍ أُخرى للمدينة، من الأسفل هذه المرّة، وليس من الأعلى. وبكلّ عفوية، يُمكن أن نقول: إنّ كلا اللوحتين في هذا المعرض أكثرُ إحساساً بالبشر وأوضاعهم، من أيّ مخيال متعالٍ عليهم وعلى حياتهم.

المساهمون