تحرير أبنية الفكر

26 أكتوبر 2023
من مظاهرة في الجزائر العاصمة دعماً لفلسطين، 19 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري (Getty)
+ الخط -

إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.



لا يمكن أن يقف أي مثقف، شاعراً كان أو روائياً، ناقداً أو فيلسوفاً، مفكّراً أو فناناً، متفرّجاً على أي عدوان يُرتكب ضد الأبرياء في أيّ مكان في هذا العالم. والحقيقة، أنَّ الشعب الفلسطيني ما فتئ يعاني من هدر إنسانيته، ولا بدَّ من أن يستيقظ الضمير البشري النائم لإنصاف هذا الشعب ومنحه حقوقه في إطار الشرعية الدولية.

لا أحبُّ أن أتحدّث بلهجة التفكير والرغبة الرومانتيكية في إلحاق الهزيمة بـ"إسرائيل" في معركة غير متكافئة، لأنَّ الاحتلال لا يزال قائماً. أرى من موقعي في الغرب، وبكل صراحة، أنَّ الثقافة العربية ليس لها أيّ تأثير جدّيٍ في تشكيل الرأي العام وبخاصّة في أوروبا - الغرب، لأنَّ هذه الثقافة لم تبلور رؤية جديدة وحديثة قادرة على أن تغيّر وجهات النظر تجاه القضية الفلسطينية، وتجاه قيم الفضاء المدعو بالعربي مشرقيّاً، على نحو محدّد. الثقافة العربية متراجعة وتفتقد طاقة المقاومة للتعريف بنفسها. وأعتقد أنّه حان الأوان لأن نطرح هذا السؤال: ماذا تفعل الثقافة العربية لنفسها أوّلاً؟ لأن هذه الثقافة صارت ضحية التمركز في الطائفية، والقبلية، والعشائرية، والشلّلية، ومستنقع الدكتاتورية الذي يُعاد إنتاجه باستمرار.

لا يمكن أن تفعل الثقافة العربية، بصيغة الجمع، أي شيء للفلسطينيين ما دامت رهينة هذه المواقع المذكورة. إنّها ثقافة دون أي مشروع حضاري، ومَن يفتقد مشروعاً كهذا، فإنّه لا يقدر أن يلعب دوراً تنويرياً في فضاء الوعي العالَمي لصالح قضية عادلة مثل القضية الفلسطينية. على الثقافة العربية أن تحرّر نفسها، أوّلاً، قبل أن تزعم أنّها ستسعى، أو يسعى أصحابها، لتحرير الفلسطينيين من الكولونيالية الاستيطانية الإسرائيلية التي تُدعم من القوى الغربية، وتُعيد إنتاج سلوكها الأنظمة السائدة في بلداننا. 

يجب أن "نحارب" على جبهتين: الكولونيالية الداخلية والخارجية

والبيّن، في تقديري، أنَّ الصف الفلسطيني مُنقسم. فهناك جزء على الأقل من الضفة الغربية يقول على لسان رئيس السلطة الفلسطينية، بلا أقنعة، أو لف أو دوران، بأنَّ أفعال تنظيم حماس الفلسطيني في غزة لا تمثّل الشعب الفلسطيني، وهناك الجزء الآخر في غزة يقول بأنّ كل ركام أوسلو والنتائج المترتبة عنه لن تقود فلسطين إلى التحرّر، وبناء الدولة الفلسطينية المستقلّة والمتطابقة مع مضمونها الوطني. أمّا على مستوى الشرائح السياسية والثقافية والفكرية الفلسطينية، فهناك ضباب الانقسام أيضاً، حيث ثمّة مجموعات تدعو إلى دولة بشعبين يتعايشان معاً، وكان محمود درويش وإدوارد سعيد يمثلان هذا الموقف، تمثيلاً لا حصراً. نحن، إذن، أمام غياب رؤية فلسطينية موحّدة تجاه صورة الدولة التي ينبغي أن تقام وتمثل الإثنيّات كافة. أعتقد أنَّ هذا الانقسام سياسي، ويعبّر عن انقسام داخل الثقافة الفلسطينية وداخل الثقافة العربية التي تمثّل الأنظمة الحاكمة على الأقل. 

أعتقد أنَّ الشرط الأساسي لكي تصبح الثقافة أداة تحرّر وتحرير الأرض والإنسان يتمثّل بأن يقرأ العرب والإثنيات التي تعيش إلى جانبهم سلاسل تراث المقاومات التي ما فتئت تحاول تحرير أبنية الفكر والفن والآداب التي أنتجها الإنسان عندنا. من دون تحرير الذوات الفرديّة والمجتمعات عندنا من العناصر الثقافية والنفسية المُنتجة للتخلّف ولقابلية الاستعمار؛ التي هي ظاهرة تبدأ أوّل ما تبدأ عندما تتحوّل أجزاء من الثقافة الوطنية إلى أداة قهر الإنسان ببلداننا، فإنَّ التحرّر من الكولونياليات الخارجية العسكرية والثقافية والقيمية والاقتصادية والنفسية لن يُنجز كمشروع، بل سيبقى مجرد سردية في شكل أمنيات مُزركشة. في هذا الصدد، ينبغي لهامش ثقافة المقاومة عندنا أن "نحارب" على جبهتين متزامنتين ومترابطتين، هما: الكولونيالية الداخلية والخارجية.

أعتقد أنّه ينبغي للمثقفين عندنا إعادة قراءة الفيلسوف الاجتماعي والطبيب النفساني الفرنسي فرانز فانون، الذي طرح منذ أكثر من ستين عاماً مشروع التحرّر من الاستعمار. كذلك يجب أيضاً إعادة العلاقة المنسيّة مع ما أدعوه مشاريع نزع أشكال استعمار المجتمع من طرف ثقافة وإدارة السلطة للحكم عندنا. فالمشروع الصهيوني وتطبيقاته المتواصلة، بدعم قوى معروفة، ينجح ببلداننا جرّاء وجود عناصر وبنيات ثقافية واجتماعية وسياسية تتشابه معه، أو لنقل، من فصيلته، وتتجاوب معه، وغالباً ما تتحالف ربّما، دون وعي في أغلب الأحيان. عندما نُشرع حقاً في إزالة هذه العناصر والبنيات، وفي إخلاء مستعمراتها المختفية في "وعينا" و"لا وعينا" الفردي والجمعي، حينئذ فقط نبدأ بالسير على طريق اكتشاف ماذا ينبغي أن نفعله كي نؤسّس وجودنا النوعي في هذا العالم. ولكن، أنا يائسٌ طبعاً.


* كاتب وشاعر من الجزائر


هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".

لقراءة الجزء الرابع من الملفّ: اضغط هنا

المساهمون