تبيَّنَ أنّنا عرّافون سيّئون

07 نوفمبر 2022
"أبشّركم بفرحٍ عظيم"، زكي بابون (فلسطين)
+ الخط -

غرقى مصحّتنا ينامون على الكراسي الكبيرة في الممرّات. بعد الفجر، كلّ ساعة أقوم عن الشاشة، لأدخّن، فأجد واحداً خرج من سرير غرفته، متلقّحاً هناك. وبعد ساعة أُخرى، أخرج لأدخّن، فأجد واحداً آخر، ينام مكان الواحد الأوّل، وكلّهم ينامون ملتحفين بالبطّانيات.

"يا الله، يا الله" التي كنّا نسمعها في مظاهرات السوريين بشارع الرمبلا، مساء كلّ يوم سبت، ونعترض عليها، لأنّ السياق مختلف؛ هل تنفع في سياقنا هذا؟

قبل قليل رأيتُ قدمَ محمد خارجة من تحت البطّانية، ولاحظت أنّها نحيفة جدّاً، والآن ها هي قدم يحيى السمينة جدّاً، تحلّ محلّها. لقد صرت أعرف الزملاء من حجم أقدامهم، لأنّ وجوههم مغطّاة جيداً وتتعذّر رؤيتها. وبعد لحظة، وأثناء ما أكون أفكّر في ما أرى بالممرّ، أقف في غرفة التدخين، أشرب القهوة المرّة والسجائر الملفوفة بلا فلتر، وأنظر من خلال زجاج الشبّاك، فأرى غُرابَين يحومان على برج الكنيسة الأسود البلاستيكي، هناك، وهما في حجم الحمام البلجيكي الضخم.

هل يمكن الترحُّم الآن حقّاً على ماركس الراحل؟ هل يمكن القول إن الرأسمالية أكبر لصوص التاريخ والكوكب؟ هل بحر الحياة مليان بغرقى الحياة ــ على رأي العزيز صلاح، أبو شذرات الذهب الخالص، ذاك الصوفي بقلب شيوعي والله ــ كما يجب أن يكون الصوفيون المعاصرون؟ فأن تكون صوفياً، في وقتنا، يعني أن تحبّ كلّ مخلوقات الله من حجر وطير وبشر وشجر وحيوان وحشرات، إلخ، إنما ــ ولا مفرّ ــ بإحساس قلب شيوعي رحيم وعطوف.

بحرُ الحياة، الأبيض المتوسط، لا يصدّر للعالم إلّا الغرقى

ثم أعود لغرفتي رقم 2 لأكتب ما رأيت، فأرى، هذه المرّة، قدمَيْ يحيى العزيز ــ وكم تكلّمنا أمس في جولتنا المسائية على ريف سانت نيكولاس، عن الحبّ الإلهي الذي يشمل جميع مخلوقات الله ــ بارزتَين وسمينتين خارج البطّانية؛ بيضاوَين، وعلى الأغلب، فإن صاحبهما مستغرق في نوم طراوة الممرّ، ولا يحس بهما ولا بمروري عنه.

بحرُ الحياة، الأبيض المتوسط، في منطقتنا، لا يصدّر للعالم غير النفط والغرقى. الكلّ وجهته أوروبا الشقراء، على أمل خُلَّب. وها هم تراهم شائعين جدّاً هنا في مصحّات الأمراض العقلية والنفسية التابعة للصليب الأحمر البلجيكي، مِن هَوْل ما رأوا في طرق التهريب، ومن عسف طول الانتظار.

هل لدينا جميعاً الحقّ في الاحتجاج؟ لكن ليست كلّ أسباب الاحتجاج واحدة؟ هل أكتب هذه السطور ويمكنني، وبشكل مجازي، القول إنني أشعر بموت قادم غير آجل؟ لقد آن الأوان والله، بعدما شبعت من دنياي وزهدت في كلّ برقها الكَذوب. 
كما أشعر بضوضاء زحف جرّارات الاحتجاج في الريف.

لم أتوقف أبدًا عن الاندهاش ممّا قد يسمّيه صديقي الشاعر خالد في أمستردام بـ"هذه الأوقات العصيبة"؟ ما هو الاضطراب الجهازيّ المضادّ خلفَ إهابي؟

اليوم مات مظفّر، ولا حسٌّ ولا خبر، إلّا عند يساريي ذلك الزمن الذين شاخوا هم بدورهم. المسكينُ مات في بلاد لطالما هاجمها وهجاها. يا لها من مفارقات والله. الله يرحمك يا عزيزي الشاهد والشهيد؟ لكَمْ كنّا بشّرنا معك بخرابٍ أفضل، في الزمانات، لكن تبيّن في آخر المطاف أنّنا عرّافون سيّئون. هل تنفع المعذرة على فشلنا، والله؟


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون