تأشيرة إلى الشمال.. إرثُ الإهانة في ثلاثة أجيال

26 يوليو 2022
المخرج السوري الفوز طنجور
+ الخط -

ما إن تنتهي آخر مشاهد الفيلم الوثائقي "تأشيرة إلى منفى الشمال" حتى يُفتحَ الستارُ على العراء. لا نستطيع مواصلة ترف اعتبار النزول من الرَّحم أوّل لجوء خارج الوطن. إن البشرية كانت من القسوة، إلى حد أنّ اللاجئين في مجاز الولادة لا مقدّس لديهم سوى محو لاجئين آخرين.

هل سمعنا بمنظّمة الأمم والشعوب غير الممثَّلة؟ هل سمعنا بجمهورية مالوكو؟ هذا انخراط في المعرفة السياسية لشعوبٍ وأممٍ غير معترف بها، ضمن منظّمة عالمية مقرُّها لاهاي في هولندا. إلّا أن المخرج السوري الفوز طنجور في فيلمه الذي بدأ عرضه منذ العام الماضي، وضعنا أمام ناس من الجيل الثاني والثالث يحملون الجنسية الهولندية كما يحملون إرثاً مزمناً من الإهانة.

لقد اضمحلّت القضية السياسية لجمهورية مالوكو التي بدأت مع استقلال إندونيسيا رسمياً عام 1945 وتصويت البرلمان على إلغاء الفدرالية، وبالتالي رفض قادة مالوكو القرار مُعلنين تأسيسَ دولتهم المستقلّة بدعم المستعمِر الهولندي.

لجزُر مالوكو تاريخٌ خاصٌّ أكثر من جزر أرخبيل إندونيسيا العملاق، فهي مشهورة بالتوابل التي فتحت شهيّة "شركة الهند الشرقية الهولندية". وكلمة "شركة" استُعملت في تاريخ الاستعمار لتجني الأرباح وتبيد مَن تبيد مِنَ السكّان الأصليين إذا احتاج الأمر. أصبحت مالوكو مركزاً استعمارياً للتّاج الهولندي، وانتشر الدين المسيحي بين المالوكيين، وصار رجالُ الشعب جنوداً في خدمة الملك.

هؤلاء الذين نتابع سيرتهم في الفيلم، هم أبناء وأحفاد من قاتلوا بوصفهم جنوداً في الجيش الملكي الهولندي، وخسروا الحرب أمام الجيش الوطني تحت حكم سوكارنو، أوّل رئيس بعد الاستقلال، ثم أُعدم قائدهم كريس سوموكيل عام 1966، لتصبح لمالوكو دولةٌ في المنفى الهولندي، وفي واقعها السياسي الآن هي محافظة إندونيسية.

العام الذي يستعيده مالوكيون في هولندا، بذاكرة طفولتهم أو عن طريق آبائهم وأجدادهم هو 1951، إذ وصلت إلى ميناء روتردام السفينة كوتوانتين حاملةً أكثر من عشرة آلاف مقاتل مع عائلاتهم. كلُّ واحدٍ منهم وبفارق السنّ، يحمل عبء أسئلته على ظهره كالحدبة: من أنا بعد سبعين عاماً؟ ولماذا انتزع الهولنديون الرتبة العسكرية لأبي فور نزوله عن السفينة في روتردام؟ لماذا وضعوهم وهم قاتلوا تحت التاج الهولندي في معسكرات اعتقال سابقة خصّصها النازيون لليهود؟ ولماذا نُحتقر للون بشرتنا؟ لماذا غيّروا أسماءنا؟

تسجيلٌ من أقرب مسافة ممكنة عن أجيال مستعمَرة

بريندا سيوتيلا، ناشطة اجتماعية. هكذا قدّمها الفيلم، لكن المخرج دفعها لتكون أكثر شخصيات عملِه تأثيراً. لقد تركها تُبدي قسوتها وانكشافَها أمام جروحِها العميقة. إنها تكره اسمها الهولندي بريندا، بلغة قومها هي "نانا" ومعناه "فتاة"، بيد أنها أصبحت رسمياً بريندا. خطر ببالي أن هذا الاسم، لا بد أن يحمل معنىً عظيماً. فالمستعمرون يُغدقون على "الشعوب الهمجية" كما يصنّف داروين أسماء ذات أبهة وعراقة. أخبرني باحث فلسطيني في هولندا أن الاسم قادم من جزر شيتلاند البريطانية التابعة لاسكتلندا، في أقصى شمال بريطانيا بينها وبين النرويج وجزر فاروه، وأصل الاسم من اللغة النرويجية القديمة ومعناه "السيف"، أو "الشعلة"، أو "السيف المشتعل".

الأم قالت للطفلة التي كان عمرها أربع سنوات حين رستِ السفينة إنّ اسم بريندا سيجعلها أكثر اندماجاً في المجتمع الهولندي، وسيخفف من شعورها بالغربة.

أفضل سردية عربية موثّقة قدمها الباحث السوري والأستاذ الجامعي منير العكْش حول 400 أمةٍ وشعبٍ أُبِيدت في ما يسمّى اليوم الولايات المتحدة الأميركية، ومنها أحد كتبه بعنوان "أميركا والإبادات الجماعية: لعنةُ كنعان الإنكليزية"، نتعرّف فيه إلى "أوتاكته" الاسم "الهندي" لكاتب يقول إنهم فرضوا عليه اسم لوثر ستاندينغ بير، وآخر منحوه اسم هنري وورد بيشر، حتى أن معلمةً اشتكت من وجود ثلاثة "هنود حمر" في الصفّ يحملون اسم يوليوس قيصر.

يفرض المستعمر الأقوى على الآخر الأضعف حربه الدامية، بسلاحه الناري عن بُعد، ثم يبني مدارس ودُور عبادة، لأن الإبادات لا تستهدف قطع النسل كلّياً، مع أنه وقعَ مثلُ هذا في أميركا الشمالية وأستراليا، بل يفضّل دائماً إخضاعَ الباقين على قيد الحياة، بعدما أخذوا العبرة ليكونوا عبيداً، ثم يأتي من نسلهم عقب جفاف الدم وتجريف الذاكرة من يفتنه نموذج المستعمر. إنّه متفوّق ومتحضّر ويسمح لآلتنا النفخية البدائية أن ترافق البيانو.

يستطيع أربعة أشخاص في الفيلم، رجلان وامرأتان، تقديم مرافعة مُحرِجة لتاريخ الاستعمار الهولندي. إنهم يعرفون أن المجازر التي أودت بحياة مئاتِ الألوف منذ مطلع القرن السابع عشر كانت أضاحي رخيصة الثمن مقابل توابل جوزة الطيب والقرنفل والفلفل ثم الأخشاب.

اعتذرَ ملك هولندا قبل عامين عن "العنف المُفرِط" في حرب الاستقلال بين عامي 1945 و1949، واعتذرَ رئيسُ الوزراء قبل بضعة أشهر. وها هو معرض كبير افتُتح أخيراً في إندونيسيا لمصوِّرة فوتوغرافية هولندية مخصّص لجزر باندا. هذه جزر ساحرة ضمن جزر مالوكو. إنما الذي وقع أن المصوّرة اكتشفت أن أحداً لم يخبرها عن آلاف الضحايا في باندا، وقد كان ينبغي التخلّص منهم في القرن السابع عشر لتسهيل عبور التوابل. والحال دائماً، أن التاريخ هو تاريخ الاستباحة والاعتذار. فعن ماذا يتحدّث هؤلاء الأربعة في فيلم الفوز طنجور؟

ترك المخرج شخصياته تُبدي قسوتها وانكشافها أمام جروحها

إنهم ضمن مجتمع معزول ينخره التهميش والإدمان. وهم يدركون أن الاستعمار حين يشقُّ طريقه في القرن الحادي والعشرين عبر حاملات طائرات شبح وصواريخ "ذكية" لن يغيِّر قيد شعرة ممّا مارسه عبر سفنه الشراعية، وهي تبحثُ عن الغنائم. "نانا" التي وجدت في التدخين الشره بعض سلواها تستذكر مقولة جدها "نونا.. لا تصدقيهم". ومثلها يقول الحدّاد هيرمان ماسيلا إنّ أجداده عوملوا كما عامل كولومبوس الهنودَ الحمر، رغم أنهم قاتلوا من أجل العلم الأحمر والأبيض والأزرق (علم هولندا).

وها هي لويزا باريهالا المتطوِّعة في متحف معسكر الاعتقال الذي استقبلهم في ظروف عيش منحطٍّ، وهو الآن يروي قصة لطالما تكرَّرت حين يستعمل المستعمر البشر ويتخلَّص منهم. وها هو جيمي دوكور اليفورو فنان الوشم الذي زار بلاده بجواز هولندي، وصارت لديه فرصة أن يشمَ أجساد الآخرين كأنه متصوّف، وأن يكُفَّ عن المشاركة في المسيرات التي تذكّر بدولة غير معترف بها. كذلك أحد الآباء يخبرُ ابنه بأنه يرفض زيارة أرضه التي رحل عنها، قائلاً إنه يريد لها أن تبقى في ذاكرته كما غادرها وهو في الثامنة عشرة.

قدّم الفيلم وثائق وأرشيفات تلفزيونية، وعلى طريقة طنجور دائماً، أعطى في المونتاج الذي اضطلع به أيضاً حصة واسعة من اللقطات التعبيرية للأماكن، واقترب بالكاميرا أقرب مسافة ممكنة من الأربعة، بالمعايشة والألفة، ومنح المشاهد العربي فرصة نادرة لسماع أصداء ليست مالوكية ولا إندونيسية ولا هولندية، بل أصداء صوت عجوز لا يفعل شيئاً سوى النظر طويلاً من النافذة مردّداً "لا تصدّقوهم".

المساهمون