بعد نجاته من حصار غيتو وارسو اليهودي، والذي تحصّن فيه اليهود من بطش النازيّين: كتب المؤرّخ البولندي اليهودي إيمانويل رينغلبلوم ما يلي: "يبدو لي أنّ الناس لن يذهبوا إلى المذابح كالخراف. إنّهم يريدون للعدوّ أن يدفع الثمن غالياً لما أصابهم في حياتهم. فلسوف يرمون أنفسهم على العدوّ بالسكاكين والهروات والفحم والغاز... لن يسمحوا لأنفسهم أن يُأخَذُوا رهائن من الشوارع لأنّهم يعرفون أنَّ العمل الشاقّ المفروض عليهم في المخيّم يعني الموت هذه الأيام".
يا ترى على من تنطبق هذه الكلمات والمَشاهد المكتوبة بدموع وجرح الألم اليوم؟ مخيّم جنين؟ نابلس؟ حوارة؟ ترمسعيا؟ غزّة؟ القدس؟ وقائمة الدمار الصهيونية ضدّ أبناء الشعب الفلسطيني لا تكاد تنتهي.
ثمّ نقرأ في مكان آخر لمذكّرات أحد المحاصَرين في غيتو وارسو عن الحرق الذي تعرّضت له مبانيهم، وأماكن لجوئهم، ولا تبدو الصورة مختلفة عمّا يعانيه الفلسطينيون اليوم من شقاء وموت على يد حثالات المستوطنين الصهاينة في الضفّة الغربية:
"أخرجُ إلى الشارع. إنّه يحترق. تتصاعد ألسنة اللهب من كلّ شيء حولي. الشوارع: ميلا زامينهوف، كورزا، ناليفيكي، لوبيكي، كلُّ هذه الشوارع تحترق: المعامل، الشقق، الدكاكين، البنايات بأكملها، كلّها تلتهمها النيران. الغيتو لا يعدو سوى بحر من النيران... المشهد مرعبٌ وصادم".
هل هذا ما حلَّ بالناس في ترمسعيا مؤخّراً، وقد سمعتُ أحدهم يصرخُ: "مجزرة"، "مجزرة"؟
طبعاً لا يجب أن تُقارَن الأشياء من دون حساسية عالية للسياق وسعة الأشياء، إلّا أنّ توحّش المستوطنين الصهاينة على أبناء الشعب الفلسطيني واتّباعهم الإجرامي لمنهج الحرق والسلب والنهب والانتقام الأعمى من كلّ فلسطيني في طريقهم يدعو إلى مقارنات مع من يعدّونهم من أبناء جلدتهم، وقد تعرّضوا للضيم والرعب، وكانت النتيجة مشاهد مؤلمة وخسارات لعينة.
جفّت الحلوق من ترداد ما هو باطل نظرياً وبالتجربة
مشهد النيران وهي تلتهم منازل وسيارات وحقول الفلسطينيّين في ترمسعيا الأخير، وقبلها في حوارة وغيرها، مشهد متكرّر يدل على عقليات صهيونية فاشية دفينة تخطّط بنيّات إجرامية مدعومة من النظام الصهيوني وجيش الاحتلال الإسرائيلي بطريقة مُمنهجة لحياة جحيم وظلام للفلسطينيين؛ بحيث لا يبقى أمامهم شيء سوى الرحيل والتسليم بالأمر الواقع اللعين، ويستعبد هؤلاء المجرمون الفلسطينيّين ويفرضون عليهم ما يفرضون من ضيم وقهر. وهذا ما ينافيه حتى التاريخ الذي يحاول حثالات المستوطنين الانتساب إليه، الذين رفض "أجدادهم" (هل هم أجدادهم فعلاً؟) الظلم الواقع عليهم وبحق يوماً في غيتو وارسو، حيثُ قاوموا حتى النهاية أعداءهم النازيّين.
فلماذا تكونُ المقاومة الفلسطينية الباسلة محطّ اتّهام عند بعض الغربيّين وتابعيهم، والذين لا يتوانون عن ترديد شعارات لم يبق لها معنى على الأرض، مثل "العملية السلمية" و"حلّ الدولتين"، و"احترام قرارات الشرعية الدولية". ألم تهترئ الألسنة وتجفّ الحلوق من ترداد ما هو باطل نظرياً وبالتجربة على مدار عقود طويلة؟
من المستفيد من الألم الفلسطيني النازف المستمرّ؟ هل السلام ممكن مع أعداء السلام وأعداء أفكار المساواة والعدالة؟ مع من ينتهكون حرمة إنسانية الآخر الفلسطيني ليل نهار من دون أيّ وازع أو رادع؟ لماذا يُعامل المستوطنون المجرمون وقادتهم بصفتهم الحقيقية كمجرمين يستحقّون النبذ من العالم وكل مقاومة ممكنة؟ لا فائدة مع هؤلاء سوى المقاومة والاستبسال في الدفاع عن الأرض والبلاد والناس، كما يفعل أبطال جنين ونابلس وغزّة وكثيرون آخرون على امتداد هذه الأرض المعذَّبة، ومنبت الإلهام والبطولة، فلسطين.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن