مدينة الزوارق التي لا تُحصى
من قاربٍ إلى قارب
أجولُ بين القناديل الخافتة
على المياه التي تكتم كلّ الصوت إلّا بعض الوشوشة.
والناسُ عيدْ
والأشعّة الخمريّة بين الوجوه الرطبة
كسِربٍ من الآلهة الطيّبة التي نجت من المحرقة،
تلهو فوق الخشب الطافي الذي يعتّقه الموج
بقيّةَ مِسكٍ منذ عهد الخرافة.
آه يا بحر الخرافة!
كيف تجعل عيون البنات حلوةً كالسكّر واسعةً كالطمأنينة؟
كيف تُقنع الليل أن يجعل الولائم الصغيرة بطعم البقاء الأبديّ،
وأن تصير الأكفّ والأعناق والشفاه المالحة...
تُلبس الرّضوانَ أساورَ وقلائد وكلماتٍ قرمزية؟
كيف تجعل الأجساد المطمئنّة غابةً ساجية...
موطناً للتكهّنات؟
من قاربٍ أقفز... إلى قارب آخر
في هذي المدينة العائمة بلا نهاية
وتحت النجوم التي ترانا ولا ترانا...
ألتذّ بفكرة الوصول إلى مكاني الشبَحيّ
أقول في سرّي:
بين الزوارق التي لا تحصى...
اسمٌ أعرفه
بلغة لا أعرفها
اسمٌ أعرفه
بحروف لا أعرفها
اسمٌ معلّق حول عنقي
منقوشٌ على تميمة لم أرها
ولكن...
ما فائدة اللّغات والحروف والتمائم
حين تسطَع العيون أمام العيون
حين تتسلّق الذكرى العجيبة أسوارَ الأزمنة
وتقفز إلى ساحة اللّقاء؟
■ ■ ■
حلب الأُخرى
مدينةٌ في قلب المدينة
تنفتح أبوابها من غرف البيوت الضيّقة
تتسابق أشعّة الأصيل بذهبها الخَمريّ لتصبغ جدرانها
تستعير وشيشها البحريّ من شوارع أوّل الليل
تسرق ورد شرفاتها من خدود البنات الواقفات على النوافذ المفتوحة
ومن شفاههنّ التي تقول بالصمت ما لا يُقال بالكلام
يدخلها كلّ اللابسين الدَّهشةَ
الذين يعتنقون نواميسَ المَنام.
■
مدينةٌ فوق المدينة
فوق أحياء الجموع الغفيرة
تشقّها شوارع الأسرار والهمهمة
وفي الليل الآخر الذي يسكن جسد الليل
يصعد إليها سكّان الأزقّة المنسيّة
يخلعون عن أكتافهم جلد القبيلة
يتّخذون لهم أجساداً من ضباب المغيب وأثداء من مياه القمر
يتدثّرون بنار حكاياتها الوثيرة
يقبّلون بعضهم على دروب الظّلال والوميض
يتلصّصون على سَوءة الدَّهر ويضحكون
ويرطنون بلغاتهم الأثيرة.
■ ■ ■
سلام المساء
السحاب هذا المساء
زبدةٌ تذوب في فم إله؛
ذهبٌ مخفوق
محمَّرٌ أمام الشمس
لترضعه قوّات السماء السفلى؛
قرنفلةٌ فاتحة
تولَد لتُرفَعَ فوراً من تراب الفضاء الغارِب
إلى بساتين الفضاء الخافي؛
سلامٌ علينا
إلينا
من عجائز الصيف الراحل
المتخلّفين في آخر ركب الدفء المغادر.
■ ■ ■
تَربيع أوّل
قمرُ اليوم
زعنفةٌ برتقالية
لماردٍ يسبح في الغابة؛
خنجرٌ في قبضة الغيم
يهدِّد به أيائل المروج؛
سِنان رمح مُدمّى
يبرز ببطء
من جثمان السحاب؛
نِصفُ رغيفٍ محمَّر
متروكٌ على مائدةٍ
انفضّت من حولها قوّات السماء
أعجوبةً للشّهود
آيةً للعالَمين.
■ ■ ■
جَوهَر
يرتمي في حضن اليباس
يتعجّب من خصوبة القيظ
ومن ملاعب الشمس بين استطالات النخيل
كيف صار خيالُ القحط هذا
منبتاً للواحات؟
يختلي بالوجوه التي يلقاها
لكلّ وجهٍ مسكنٌ في صدره
وبضعُ زوايا للاجتماع
إلّا هي...
لوجهها عنده بستانٌ مُسوَّر
غابةُ حَوْرٍ وألوان يوكاليبتوس
لأجل اللُّقى والاستماع.
■
يحفظ معارج التلال
بين البيوت العتيقة
ينقّب عن بقايا الحكايات
والأسرار المتروكة هدايا للمصادفات
يعلم أنّ الكلّ قد غادر
ولكن للحجارة أسماء
وللشجر ألقاب
والأسماء لا تغادر
والألقاب لا تموت
والهدايا تصل إلى أيدي أصحابها
لأن المصادفات لا تُدعى هكذا في بطون الحكايات.