ظل حلم الحملات الصليبية يداعب أخيلة ملوك وأمراء أوروبا حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وبعد خروج آخر مقاتل صليبي من جزيرة أرواد السورية بأكثر من مائة عام. وسعى البعض من هؤلاء الملوك والأمراء إلى تحويل الحلم إلى واقع مع ورود أي خبر يأتي من الشرق يحمل بشرى حرب أهلية أو مشكلة تنازع على العرش. وربما كان ملك إنكلترا هنري الخامس أكثر الملوك الأوروبيين جدية في الإعداد لحملة صليبية؛ أراد من خلالها تتويج مسيرته الحربية بعد احتلاله لأجزاء واسعة من فرنسا وتوقيعه معاهدة تروا المذلة لملك فرنسا شارل السادس، وزواجه من ابنته كاثرين دو فالوا.
تحالف هنري الخامس مع دوق بورغوندي المسمى فيليب الصالح، والطامح للحصول على اعتراف البابا به كملك، ولا يخفى أن فيليب الصالح هذا هو حفيد فيليب الشجاع (1363-1404) الذي نظم حملة صليبية ضد العثمانيين في عام 1396م؛ وانتهت بهزيمته وأسر ابنه جون الخائف، والد فيليب الصالح، في معركة نيكوبوليس على يد السلطان العثماني بايزيد الأول.
أبدى دوق بورغوندي حماساً غير عادي للحملة، وأرسل جاسوساً إلى مصر كان يسعى للوصول إلى أراضي العثمانيين، ولكن مشاكل ولاية العهد بعد وفاة بايزيد الأول أسيراً في سجون تيمورلنك، ونشوب حرب أهلية استمرت 11 عاماً، حالا دون ذلك. وقد واصل فيليب الصالح العمل على الإعداد للحملة الصليبية حتى بعد وفاة هنري الخامس في عام 1422، فأرسل بعد عشر سنوات تابعه وخادمه الشخصي بيرتراندون دو لا بروكيير في رحلة تجسسيه جديدة إلى الشرق، وكان السلطان المملوكي يومها الأشرف بارسباي، والسلطان العثماني معز الدين مراد الثاني.
من غنت إلى يافا
غادر بيرتراندون مدينة غنت، عاصمة مقاطعة فلاندر الشرقية البلجيكية في شباط/ فبراير عام 1432م، سالكاً الطريق عبر شامبانيا وبورغوندي إلى إيطاليا. وذهب أولاً إلى روما، حيث استقبله البابا يوجين الرابع. وفي 25 آذار/ مارس، انطلق من روما متوجهاً إلى البندقية، حيث استقل سفينة حجاج متجهة إلى يافا في 8 أيار/ مايو. وبعد عدة محطات في موانئ الموريا، ورودس، وقبرص، وصل إلى يافا التي وجدها مدمرة بالكامل، ولم يكن فيها سوى عدد قليل من أخصاص القصب، المبنية للحجاج كي تقيهم حرارة الشمس.
ويقول رحالتنا إن البحر يدخل إلى المدينة ويشكل مرفأ سيئاً وضحلاً، لافتاً إلى أنه من الخطر البقاء في هذا المكان لفترة طويلة خشية من أن تدفع الرياح المياه إلى الشاطئ. ويشير إلى وجود ينبوعين عذبين أحدهما يصب في البحر، وهو مقصد الحجاج، حيث يتوجه إليه المترجمون وضباط السلطان للتأكد من أعداد الحجاج وأخذ الضريبة السلطانية، ومن ثم تسليمهم للمرشدين.
بعد يافا يتوجه بيرتراندون إلى مدينة الرملة، ويلاحظ أنها بلا أسوار، لكنه يقول إنها مدينة تجارية جيدة، تقع في منطقة مناسبة وخصبة، ومن هناك ذهب هو والحجاج لزيارة مقام القديس جورجيوس، قبل أن يتابعوا طريقهم إلى القدس التي وصلوا إليها بعد يومين. ونلاحظ أن رحالتنا اختزل كثيراً الحديث عن مناسك الحج المعتادة، وأخبرنا أنه زار نهر الأردن حيث تعمد المسيح، كما زار بيت لحم، وبيت زكريا والد يوحنا المعمدان، ولاحظ وجود كنيسية للرهبان الفرنسيسكان (Cordeliers)، يؤدون فيها صلواتهم، ولكنهم خاضعون للعرب، كما يقول. ويخبرنا أن بيت لحم مسكونة من المسلمين وبعض مسيحيي المنطقة. وملاحظته حول مسقط رأس يوحنا المعمدان في بيت لحم غريبة، إذ تعتقد المراجع المسيحية أن مسقط رأس المعمدان الحقيقي في قرية عين كارم غربي القدس.
في القدس
وحول القدس يقول رحالتنا: "تقع القدس على جبل، وهي اليوم مدينة كبيرة، على الرغم من أنها كانت تبدو أكبر من ذلك في الأزمنة السابقة. إنها تحت سيطرة السلطان، ويا له من عار وحزن للمسيحيين. من بين المسيحيين الأحرار هناك اثنان من الفرنسيسكان يقيمان في القبر المقدس، ولكنهما كانا مضطهدين، كما لمست ذلك، خلال فترة الشهرين التي قضيتها في المدينة، ويوجد في كنيسة القيامة طوائف مسيحية كثيرة مثل اليعاقبة، والأرمن، والأحباش من بلاد الكاهن يوحنا، ومن مسيحيي المنطقة. لكن الذين يعانون من الاضطهاد هم الفرنجة فقط".
بعد القدس توجه بيرتراندون برفقة عشرة حجاج آخرين إلى دير سانت كاترين في جبل سيناء بصحبة بدو من راكبي الجمال، وزاروا في طريقهم مدينة الخليل وأضرحة الآباء المؤسسين، ومدينة غزة التي كان يحكمها والٍ شركسي في الستين من عمره، كما يقول. وفي غزة مرض بعض رفاقه فعادوا إلى القدس؛ بينما تابع هو طريقه مع الآخرين بصحبة البدو، ولكنه مرض أيضاً وتركه رفاقه مع أحد المرشدين، ومضوا هم إلى سيناء، فعاد إلى غزة، ومر بعسقلان في طريقه إلى الرملة، وصادف الوالي عائداً من الحج بصحبة خمسين فارساً ومائة جمل. ومن الرملة توجه إلى القدس حيث بقي فيها حتى تماثل للشفاء.
بعد أن شفي رحالتنا توجه إلى يافا، ومن هناك استقلّ سفينة عربية إلى بيروت، حيث استغلّ الوقت الذي أمضاه في هذه المدينة بالبحث عن معلومات عن رحلته الكبرى إلى ديار السلطنة العثمانية، ولهذه الغاية توجه إلى تاجر جنوي يُدعى جاك بيرفيزين نصحه بالذهاب إلى دمشق، وأكد له أنه سيجد فيها تجاراً من البندقية وكتلونيا وفلورنسا وجنوة وأماكن أخرى، وأعطاه خطاب توصية إلى مواطن من بلده يُدعى أوتوبون إسكوت. ومن أجل ذلك استأجر هو ورفيق له يدعى السير سانسون، تعرف إليه في بيروت، بعض المكارية الذين نقلوهم على متن البغال إلى دمشق.
وصف بيروت ودمشق
حول الطريق من بيروت إلى دمشق الذي يستغرق يومين يقول بيرتراندون: "علينا اجتياز بعض الجبال العالية وصولاً إلى سهل طويل، يُدعى وادي نوح (سهل البقاع)، لأنه قيل إن نوحاً بنى الفلك هناك. هذا الوادي عبارة عن سهل واسع ممتع وخصيب، يسقيه نهران، ويسكنه العرب، وقبل أن نصل إلى دمشق، مضينا في طرق بين الجبال كثيرة القرى وكروم العنب، ولكني أحذر أولئك الذين ستتاح لهم فرصة القيام برحلة مماثلة؛ بأن يعتنوا بأنفسهم جيداً في الليل، لأنني لم أشعر مطلقاً في حياتي بهذا البرودة".
ويخبرنا رحالتنا بأنه كان ممنوعاً على المسيحيين دخول البلدات على ظهور الخيل، ولذلك كان عليهم أن ينزلوا عن رواحلهم قبل الوصول إلى المدينة. وقد لفتت قبعته الكبيرة المصنوعة من جلد السمور نظر المتطفلين الذي تجمعوا للفرجة عليه وعلى صاحبه السير سانسون، فقام أحد بضرب القبعة بعصاه، فسقطت على الأرض، ولولا تدخل المكارية لنشبت معركة، ومن أجل ذلك كال الشتائم للدمشقيين ووجه نصيحة لعدم المزاح معهم.
وقدم بيرتراندون في رحلته هذه وصفاً لدمشق؛ لا يختلف كثيراً عن وصف الرحالة المسلمين الذي زاروها في ذلك الوقت، فقال: "قد يبلغ عدد سكان دمشق كما سمعت مائة ألف نفس. المدينة غنية وتجارية، وهي ثاني مدينة في حوزة السلطان بعد القاهرة من حيث الأهمية. إلى شماليها وجنوبيها وشرقيها سهل متسع الأرجاء، وإلى الغرب يرتفع جبل، عند سفحه بنيت الضواحي، ويمر عبرها نهر مقسم إلى عدة قنوات. وهي محاطة بسور جميل، والضواحي خارج السور أكبر من المدينة. لم أر في حياتي أي مكان آخر فيه مثل هذه الحدائق المتسعة، ولا الفواكه الممتازة، ولا هذه الكمية من المياه. لا يخلو بيت من نافورة. الوالي أدنى مرتبة من السلطان في كل سورية ومصر. ولكن، كما حدث في أوقات مختلفة، تمرد بعض الحكام، واتخذ السلاطين الاحتياطات لكبح جماحهم. في دمشق قلعة قوية على الجانب الغربي باتجاه الجبل، فيها خنادق واسعة وعميقة، وتم تدميرها في عام 1400، وتحويلها إلى ركام على يد تيمورلنك. وآثار هذه الكارثة باقية إلى الآن".
كارثة تيمورلنك
ويضيف: "باتجاه باب القديس بولس هناك حي كامل لم يُعد بناؤه حتى الآن، وفي المدينة خان مخصص لبضائع التجار الأوروبيين يسمى خان بركوت (الصحيح برقوق)، وسمي بذلك لأنه كان محل إقامة شخص بهذا الاسم. من ناحيتي، أعتقد أن بركوت كان فرنسياً؛ وما يدفعني إلى هذا الرأي هو أن زهرة الزنبق المنحوتة على حجر في المنزل تبدو قديمة قدم الجدران. ومهما كان أصله، فقد كان رجلاً شجاعاً للغاية، ويتمتع حتى يومنا هذا بسمعة عالية في ذلك البلد. لم يستطع الفرس ولا التتار خلال حياته، وأثناء وجوده في السلطة، الحصول على أصغر جزء من الأرض السورية. في اللحظة التي كان يعلم فيها تقدم أحد جيوشهم كان يسارع على الفور لمواجهته، حتى النهر وراء حلب (..) أهل دمشق مقتنعون بأنه لو عاش لما كان في قدرة تيمورلنك الوصول إلى هذه البلاد. ومع ذلك، فقد كرمه تيمورلنك حين أحرق المدينة، فقد أمر بإبقاء بيت بركوت، وعين حارساً يمنع إصابته بالنار، ليبقى إلى يومنا هذا".
ويخبرنا رحالتنا بأنه وجد في دمشق تجاراً من جنوة، والبندقية، وكالابريا، وفلورنسا، وفرنسا. والتاجر الفرنسي الذي صادفه أتى إلى دمشق لشراء العديد من الأشياء، وخاصة التوابل، بقصد أخذها إلى بيروت ونقلها إلى فرنسا. وقد أرشده هؤلاء الأوروبيين إلى بعض الأماكن المرتبطة بالمسيحية مثل السور الذي صعد منه بولس الرسول ليهرب من دمشق، والحجر الذي امتطى منه القديس جورجيوس حصانه عندما ذهب لمحاربة التنين.
الألعاب النارية في بيروت
بعد أن رأى دمشق؛ عاد بيرتراندون ورفيقه السير سانسون إلى بيروت، حيث وجد احتفالاً أقامه المغاربة، ويبدو أنهم من الفرق العسكرية التي كان يستعين بها المماليك، وقال في وصفه لهذا الاحتفال الكبير: "شهدنا وليمة يحتفل بها المغاربة على طريقتهم القديمة. بدأ الحفل في المساء عند غروب الشمس. كانت ثمة مجموعات كثيرة منتشرة هنا وهناك، تغني وتطلق صيحات عالية. وبينما كان هؤلاء يمرون، أطلقت مدافع القلعة، كما أطلق سكان المدينة في الهواء نوعاً من النار، ارتفعت عالياً لمسافات بعيدة، وكان ضوؤها أكبر من أكبر مصباح رأيته على الإطلاق. قالوا لي إنهم في بعض الأحيان يستخدمون هذه النار في البحر؛ لإحراق أشرعة سفن العدو، وبدا لي أنه شيء يسهل صنعه وقليل التكلفة، ومن الممكن استخدامه لإحراق معسكر أو قرية مسقوفة بالقش، أو في الاشتباكات مع الفرسان لتخويف الخيول. ومن دافع الفضول لمعرفة تركيب هذه النار؛ أرسلت خادم مضيفي إلى الشخص الذي أشعل النار، وطلبت منه أن يعلمني الطريقة، ولكنه لم يجرؤ، ولكن، وبما أن المال يفعل فعله لدى هؤلاء المغاربة، فقد عرضت عليه دوقيات، مما أشعره بالارتياح وعلمني كل ما يعرفه، بل وأعطاني القوالب المصنوعة من الخشب، مع المكونات الأخرى، التي أحضرتها إلى فرنسا".
عكا فخر الدين
من بيروت توجه رحالتنا إلى الناصرة وجبل طابور ليستكمل حجه، فمرّ بمدينة صيدا المحاطة بخنادق غير عميقة، ومدينة صور، ومن هناك توجه إلى عكا، وقال إنها مسكونة من العرب في الغالب. وبالقرب من عكا قابل زعيماً عظيماً للبلاد يدعى فخر الدين (Fancardin)، وقال إنه كان نائماً في السهل المفتوح، ويحمل خيامه معه. وفي عكا تعرف إلى تاجر من البندقية يُدعى أوبرت فرانك، استقبله جيداً، وزوده بالكثير من المعلومات المفيدة؛ فيما يتعلق برحلة الحج إلى الناصرة. ويبدو أنه صادف الكثير من فرسان البدو قرب الناصرة وجبل طابور. ومن جبل طابور رأى بحيرة طبريا التي يتدفق خلفها نهر الأردن، ولفتت نظره حقول القطن التي تنتشر في مرج ابن عامر والتي شبهها بالثلج. وقاده الدليل المرافق له إلى بيت رجل لتناول العشاء فأحضر له صحناً من اللبن، وآخر من العسل، وعنقوداً من التمر. ويبدو أن أصحاب البيت كانوا يعملون بحلج القطن.
من الناصرة توجه إلى بحيرة طبرية ومنها صعد إلى بئر يوسف (قرية جب يوسف شرقي صفد الحالية)، ثم إلى جسر بنات يعقوب، وتحدث عن وجود خان فخم قبل دمشق بأربعة أو خمسة أميال، وقبل وصوله سمع أن السلطان أمر باعتقال الجنويين والكتلونيين بسبب هجمة للقراصنة الإيطاليين على سفينة للمغاربة. وقد صادف وصولهم إلى دمشق وصول محمل الحج من الحجاز، فوصف الاحتفالات الكبرى التي صاحبت استقباله من قبل الدمشقيين.
قافلة حج إلى بورصة
وفي دمشق؛ تفاوض بيرتراندون مع قائدة قافلة الحج المتجهة إلى بورصة، المدعو خوجة باراك، وقد اشترط عليه أن يرتدي الزي التركي، حتى لا يعرض رفاقه للخطر، وقد تعرف في هذه القافلة على مملوك مسيحي، مولود في بلغاريا يتظاهر بالإسلام، واسمه عبد الله، يجيد شيئاً من الإيطالية، وصف له مكة المكرمة والمدينة المنورة وعلمه جوانب من الثقافة التركية كالطبخ، والعادات العسكرية، كما علمه أساسيات اللغة التركية. وعندما وصل أخيراً إلى بورصة، أقام عند تاجر من فلورنسا لمدة عشرة أيام قبل أن ينضم إلى جماعة من التجار الأوروبيين، إسباني وثلاثة فلورنسيين، إلى القسطنطينية، حيث تعرف إلى تاجر كتلوني، وكتب انطباعات سيئة عن الإمبراطور البيزنطي.
ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينية
غادر رحالتنا القسطنطينية في 23 يناير 1433 بصحبة سفير دوق ميلانو إلى بلاط السلطان العثماني مراد الثاني في أدرنة، حيث وصلوا في أواخر فبراير. ويسجل بيرتراندون وقائع الاستقبال الفخم الذي لقيه السفير. وفي 12 آذار/ مارس غادر وصاحبه أدرنة، وزارا مقدونيا وبلغاريا، وألبانيا، والبوسنة، وصربيا. وفي بلغراد التي وصل إليها في 12 نيسان/ إبريل بدأ بالتفكير بشكل استراتيجي في غزو الإمبراطورية العثمانية؛ بعد أن وضع خطة لتوحيد إنكلترا وفرنسا وألمانيا ضد العثمانيين. ويقول إن الغزو سيكون سهلاً، لكن اليونانيين - وليس الأتراك - هم من لا يثقون بالغربيين، مستبعداً التحالف معهم.
وبعد ذلك اجتاز برتراندون السهل المجري، وفي مدينة بودا افترق عن صاحبه السفير الميلاني، وتوجه إلى فيينا، وهناك رحّب به دوق النمسا ألبرت الخامس، ابن عم فيليب الصالح، وفي أوائل شهر تموز/ يوليو عاد إلى بورغوندي، وأعطى فيليب الصالح نسخة من القرآن الكريم والسيرة النبوية؛ ترجمهما قسيس قنصل البندقية في دمشق إلى اللاتينية. كما أعطاه ملابسه وحصانه. أعطى الدوق القرآن والسيرة النبوية للمطران جون جيرمان، واحتفظ بالرداء.