بيت ساحور.. ذاكرة العصيان المدني والمقاومة

26 ديسمبر 2021
من مظاهرات في بيت ساحور احتجاجاً على إقامة جدار الفصل العنصري، 2003 (Getty)
+ الخط -

"بلادٌ على أُهبة الفجر: العصيان المدني والحياة اليومية في بيت ساحور" عنوانُ كتاب صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" للباحث الفلسطيني أحمد عز الدين أسعد، ويوثّق واقع البلدة (تبعد 10 كلم جنوب القدس) إبّان سنوات الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى عام 1987.

ويحلّل الكتاب حالة بيت ساحور وأهاليها، متناولاً أدوات العصيان التي طوّروها، والأساليب المختلفة التي خلقوها لمقاومة الهجمات الضريبية الإسرائيلية، وفرض موقف مقابل لسياسات الاحتلال في البلدة، وهو ما يسمّيه الكاتب بالتكيّف العصياني المقاوِم. ويورد الكتاب تحليله السوسيولوجي لمظاهر العصيان معتمداً على مقابلات شخصية مع عشرات الأفراد من أهالي البلدة، لتسجيل شهاداتهم وانطباعاتهم وتحليلهم لتجربة العصيان التي كانوا جزءاً منها، أفراداً ومؤسساتٍ أهليةً ودينية ورسمية، مُظهِراً من خلالها جوانب مختلفة من تجربة المقاومة الشعبية، كما خاضها أصحابها.

حاول المؤلّف تقديم تصوّرٍ عامّ عن العصيان المدني في السياق الفكري والنظريّاتي العام. والعصيان هو مواجهة مع بنية سياسية وقانونية، وبنية استعمارية في الحالة الفلسطينية، يحتاج إلى توافر قرارات جماعية مشتركة لنضوجه، والتي تكون انعكاساً للممارسة الهوياتية، وليست تعبيراً عن مصالح مشتركة لجماعة ما.

الصورة
غلاف الكتاب

كما سعى إلى تقديم قراءة نظرية جديدة للعصيان المدني، تَخرج من رتابة المقولة السياسية أسيرة ثنائية الاحتلال - الاستقلال، لتفتح الباب واسعًا على قراءة متعددة الأبعاد، فتوظّف نظريات علم الاجتماع، والفكر، والفلسفة، وعلم الإنسان، والتاريخ الاجتماعي، والنظريات البينية المتداخلة الحقول، مثل: دراسات الاستعمار الاستيطاني، ومدرسة التابع، والدراسات الثقافية والنقدية. بعد الحصيلة النظرياتية السابقة، يمكن القول إن العصيان المدني في الحالة الفلسطينية له شكل مختلف عن العصيان المدني في تجربة مجموعات أو حركات ضد حكومة أو دولة ليست دولة استعمارية، وإنما دولة متسلّطة على شعبها؛ فالعصيان المدني في الحالة الفلسطينية ذو بُعدٍ انتفاضيّ ثوريّ، مرتبط بالتحرر وتقرير المصير ودحر الاستعمار وإقامة الدولة الفلسطينية.

ويورد الكتاب مفهَمةً للانتفاضة والثورة، كالشروحات التي وردت في موسوعة المصطلحات والمفاهيم الفلسطينية، أو التوصيف الذي قدّمه عزمي بشارة الذي يرى فيه أن أهم ما يميّز الانتفاضة الشعبية الفلسطينية (1987) من عناصر القوّة هو: "جماهيرية الانتفاضة وشعبيّتها، شمولية الانتفاضة كحالة تُلازم نواحي الحياة الفلسطينية كافة، الصدامية مع الاحتلال؛ ورفض الوضع القائم والوضوح في هدف التخلّص من الاحتلال؛ تسييس الجماهير الفلسطينية في الداخل ونشوء جيل جديد فولذته عملية الصدام مع الاحتلال؛ وجود برنامج سياسي واضح تتبنّاه الانتفاضة منذ الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني".

ويبيّن المؤلّف أيضاً أن سياسة جباية الضرائب في بيت ساحور كانت عدوانية عدائية استعمارية، هدفها الهيمنة وكسر أهالي البلدة، فحاولت القوّة الاستعمارية فرض الطاعة والخنوع عليهم، لكنّ تلك السياسات الاستعمارية فشلت نوعاً ما. وأكّد أهالي بيت ساحور عبر ممارساتهم السياسية والثقافية والعصيانية والوطنية على الهوية الفلسطينية التي تتصارع مع هوية استعمارية استشراقية، فقصّة الامتناع عن دفع الضرائب والمطالبة الإسرائيلية بالضرائب أعادت الصراع إلى منابته الأولى؛ صراع بين حركة تحرّر وطني ودولة استعمار استيطاني واستغلالي.

ويلفت كيف أن غالبية العوامل التي ساهمت في تصليب عود العصيان المدني الوطني في مدينة بيت ساحور، ترتكز أساساً على البنيات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية في المدينة؛ وكون أهالي بيت ساحور حملوا لواء العصيان المدني بنهج جماعي علني وطوعي، فقد كان سرّ تميّز العصيان وقوته أنه بِنيوي يعتمد على أهالي المدينة جميعهم، ما يمكّننا من القول إن مدينة بيت ساحور تحوّلت إلى بنية عصيانية واحدة متكاتفة ومتماسكة في وجه البنية الاستعمارية الإسرائيلية؛ وكون البنية العصيانية في بيت ساحور عُمّدت بالدم والانتماء والكرامة، واستندت إلى أبنية صلبة، مثل الحركة الوطنية والحركة الجماهيرية والبنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فقد اكتسبت قوة تلك البنيات وسماتها.

ويتبيّن بحسب الكتاب أن هناك جملة من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ساهمت في انتصار بيت ساحور، إضافة إلى استمرار إصرار أهالي المدينة على العصيان المدني، رغم الهجمة الاستعمارية الشديدة والقويّة. وتتلخّص تلك العوامل التي وُجدت أثناء عملية البحث والتوثيق والتحليل، في أن الظاهرة العصيانية في بيت ساحور كانت جماعية اشترك فيها المجتمع كلّه، وكانت ميدانيةً عمادُها الحركة الوطنية بتشكيلاتها كلّها، والحركة الجماهيرية بمؤسّساتها وأطرها كلها، وكانت، أيضاً، عابرة للحزب والطائفة والمهنة والعائلة والحارة، فغلب عليها طابع الحركة الاجتماعية وفق منطق تشارلز تِلي (Charles Tilly) للحركات الاجتماعية، والتي لديها ثلاثة أنواع من المطالب، تتمثّل في برنامجٍ وهوية ومكانة.

كتب
التحديثات الحية
المساهمون