لم تنتظر الفلسفة حتى القرن التاسع عشر، أي حتى ظهور الهيرمينوطيقا ــ كحقلٍ فلسفيّ يهتمّ بالنصّ ومعانيه وتفسيره ــ، كي تطرح سؤال القراءة. إذ لم يغب النصّ، وكيفية قراءته، عن أولى المواضيع التي توقّف عندها مفكّرون مثل أرسطو في كتاب "العبارة"، وإن كانت مقاربته تميل أكثر إلى المنطق. أمّا الفلاسفة العرب، والفلاسفة الأوروبيون الوسيطون، فقد نقلوا السؤال إلى فضاءات دينية، متساءلين حول كيفية قراءة النصوص المقدّسة وإن كان لهذا التفسير أن يكون واحِداً أو متعدِّداً، تاريخياً متناسباً مع الواقع أو لازمنياً.
وقد عرف سؤال القراءة عودةً إلى الأضواء خلال القرن الماضي. ففي حين استكمل فلاسفةٌ فرنسيون وألمان ما بدأه الهيرمينوطيقيون، من بحثٍ في عوالم النص ومعانيه الممكنة، كما هو الحال عند هانز جورج غادامير وبول ريكور، فإن فلاسفة آخرين، مثل جاك دريدا وبول ماشيري، تناولوا فِعْل القراءة بالمطلق: لا كوسيلة يتناولها المفكّر كمقدّمة لدخول نصّ بعينه، بل كتجربةٍ إنسانية تستحقّ، بحدّ ذاتها، تساؤلاً فلسفياً لا يختصرها بنتائجها.
في كتابه "ما معنى أن نقرأ؟"، الصادر حديثاً في سلسلة "دروب فلسفية" لدى منشورات "فْران" في باريس، يعود المفكّر الفرنسي بول ماتياس إلى هذين التراثين الفكريين حول سؤال القراءة، الذي يعيد طرحه على ضوء المعطيات العِلمية والتكنولوجية الجديدة، والتي أعادت، بمعنىً ما، صياغة السؤال على نحوٍ لم يكن مألوفاً في القرن الماضي.
ينطلق ماتياس من تفنيد المقولة العِلمية التي تختزل القراءة بكونها عملية تقنيّة، عصبيّة، تتمثّل بفكّ شيفرة رموز وضعها المؤلّف في نصّه. فهمٌ كهذا يقودنا إلى أن كلّ قراءة من شأنها الإلمام بكامل المعنى الذي يقوم عليه نصّ ما؛ بل إنها تفترض ــ خطأً ــ أن للكلمات وللنصوص، أي للرموز اللغوية، معنىً واحد؛ بينما يعلّمنا تاريخ القراءة أن مقاربة النصّ ليست إلّا تفسيراً له من بين تفاسير عديدة يقوم عليها، وهو ما يعني أنّ القراءة، حالها كحال النص، تاريخيةٌ تعريفاً؛ أي أنها محكومة بظروف عصرها.
إلى جانب هذا الفهم الهرمينوطيقي لفِعل القراءة، يُضيف بول ماتياس بُعداً إبداعياً يكمّل ذاك البُعد الأوّل. ولا يكتفي المؤلّف، هنا، بتكرار المقولة عن القارئ "شريكٌ" للكاتب في إبداع النص، كما بات شائعاً قول ذلك في الأعمال النقدية الأدبية التي تتناول القراءة. فإبداعية القراءة، عنده، تعني أنها فِعلٌ يغذّي النصّ نفسه ويُضيف إليه تمظهراتٍ جديدةً وواقعاً جديداً ربما لم يكن الكاتب على عِلمٍ بأنّه سيجد النور يوماً ما. وإن كانت هذه الأطروحة تُعيد التأكيد على تعدّدية المعنى في اللغة، وبالتالي تعدّدية القراءة إلى ما لا نهاية له، فإنها أيضاً تُشير، بحسب المؤلّف، إلى أن القراءة تمثّل بيئة إيكولوجية قائمة بذاتها، بحيث تُعيد كلّ مرحلة زمانية ابتكار ما تقرأه، ما يتيح الحديث عن ديكارتٍ خاصٍّ بيومنا هذا يختلف، إلى حدّ قد يكون بعيداً، عن ذلك الذي قُرئ ضمن بيئة القرن التاسع عشر على سبيل المثال.