استمع إلى الملخص
- **حياتها ووفاتها**: عانت منوبية من مرض السل وتوفيت قبل أربعة أشهر من بلوغ ابنها الثانية عشرة، وكانت تحلم برؤيته يكبر.
- **ذكرياتها وصورتها**: لم تلتقط منوبية أي صور، وابنها يعتمد على ذاكرته وروايات كبار السن لتخيل ملامحها، مع تذكره لوشمها على جبينها.
اسمها
منوبية. هذا هو اسمها. لكنّها تُحبّ أن تضيف عندما تذكره "بنت محمود"، بالرغم من أنّ لا أحد في الدوّار يُدعى مثلها.
في تلك الفترة البعيدة، كانت هناك في أرياف تونس أسماء شديدة التميّز. في قرية العلا التي وُلدتُ وأمضيت فيها كلّ طفولتي وجزءاً مهمّاً من مراهقتي، كانت هناك امرأة تُدعى "باشا"، وأُخرى "تونس"، وثالثة "توزر"، ورابعة "حضريّة".
أبوها
محمود هذا لم يكن أيَّ محمود. لا بُدّ أنّ إضافة اسم والدها تمنحها شيئاً من الاعتزاز. كان الوحيد في الدوّار الذي له وظيفة في "الحكومة". مفتّش حشيش، أو"فركات نفّة" كما يسمّونه. يؤدّي عمله في الأرياف بحثاً عن الحشيش الذي كان يزرعه الناس في المطامير والمغاور والكهوف وشعاب الأودية كي لا تكتشفه الحكومة. زراعة الحشيش ممنوعةٌ والقانون يعاقب عليها بشدّة.
موتها
ماتت في صباح يوم صيفي قبل أربعة أشهر من بلوغي الثانية عشرة. صرتُ على يقين من ذلك فيما بعد، عندما كبرتُ وأصبحت رجُلاً، وهو ما كانت تحلم بأن تشهده. مرض السلّ الذي عانت منه لم يُمهلها. أتذكّر الدم الذي كان يسيل من فمها عندما يشتدّ سعالها. بعض القطرات الصغيرة تتطاير فتقع على يدي. أبي يحاول أن يُبعدني عنها كي لا تنتقل إليّ العدوى، لكنّها تتشبّث بي. "اترُكه إنّه ابني". لا يجرؤ أبي على أن يفصلني عنها بالقوّة. ليس احتراماً لها أو خوفاً منها، وإنّما تقديراً لأبيها المتوفّى، وأيضاً لأخيها محمّد.
أخوها
محمّد هذا ليس هو الآخر أيّ محمّد. كلّ الناس يحترمونه، بل هناك من كان حريصاً على ذِكر كلمة "الشيخ" أمام اسمه كلّما نطق به بالرغم من أنّه لم يتجاوز الثلاثين. إنّه الوحيد في الدوّار الذي يعرف القراءة والكتابة. يحفظ عن ظهر قلب بضع آيات من القرآن. تعلّم ذلك في الكتّاب. إلّا أنّ الأهمّ من هذا هو أنه يعرف الفرنسية. درس مع أبناء الفرنسيس في بيشون حتى "السرتفيكا" دون أن ينالها. والتونسيّون الذين يدرسون حتى السرتفيكا لم يكونوا كثيرين في تلك الفترة. وكانوا من أبناء الأعيان. ولو لم يكُن أبوه على علاقة بالفرنسيس بحُكم أنّه كان "فركات نفّة"، لما تمكّن من أن يدرس مع أبنائهم.
كان محمّد فخوراً جدّاً بمعرفته اللغة الفرنسيّة. وفي بعض الأحيان كان يتكلّم بها أمام الناس الذين يجهلون حتى كتابة أسمائهم بالعربيّة كي يُظهر تفوّقه عليهم. كان يحلو له أن يمتحنني عندما بدأت تعلُّم الفرنسيّة. لا يسألني عن أسماء بعض الأشياء المتداولة كالخبز والماء والبيت والمطر والعشب، وإنّما عن أشياء لا تخطر ببالي إطلاقاً: العرعر. إكليل الجبل. الورل. الحرباء.
صورتها
لم تقف أمّي قَطّ أمام مصوّر. في الوقت الذي عاشت فيه حياتها القصيرة (1916 - 1962) لم يكن التقاط الصور خاصّةً للنساء شائعاً في القرى النائية، بل كان شبه منعدم. فرنسا التي كانت تستعمر تونس عندما كبرت أمّي لم تنجح في إرغام جميع السكّان في الأرياف على أن تكون لهم بطاقات هويّة، وهي وثائق لا بدّ أن تحتوي على صور لأصحابها. والحكومة التونسيّة التي استلمت السلطة بعد استقلال البلاد كانت منشغلةً آنذاك بأمور أهمّ بكثير من بطاقات الهويّة.
في ذلك الزمن كلُّ النساء في الأرياف كنّ يلازمن بيوتهنّ طوال اليوم، ولا يخرجن إلّا لأداء بعض الأعمال في الحقول كقطاف الزيتون واللوز أو لرعي الماشية أو لجمع الحطب والجلّة التي كانت تُستعمل كوقود للطبخ. فما الحاجة إذن إلى أن تكون لهنّ بطاقات هويّة؟
الحقيقة أنّ امتلاك صور في تلك الفترة في الأرياف البعيدة لم يكُن أمراً سهلاً. لا أحد يملك كاميرا. ومحلات التصوير منعدمة تماماً في القرى وحتى البلدات المجاورة. كلّها توجد في المدن. وبالرغم من أنّ المسافة التي تفصل بين قريتنا ومدينة القيروان لا تتجاوز الستّين كيلومتراً، فقد كانت تبدو لهم آنذاك بعيدة. كان الذهاب إليها يُعدّ سفراً حقيقيّاً يستعدّون له طويلاً. كان مُكلفاً، كما أنّ ثمن الصور كان مرتفعاً.
وبالإضافة إلى كلّ هذا، كان هناك أناس ينتابهم قليل من الخوف من الوقوف أمام مصوّر. عمليّة التصوير ذاتها تبدو لهم مبهمة عجيبة. كيف تستطيع آلة بكْماء أن تنقل وجوههم بكل هذه الدقّة والوضوح على الورق بمجرّد الوقوف أمامها والتحديق فيها لبضع ثوانٍ؟
أمّا فكرة التقاط الصور لغاية استيطيقيّة أو لتخليد لحظات وحالات معيّنة أو لمجرّد الذكرى فلم تكن آنذاك تخطر ببال أحد. ما الجدوى من ذلك؟ وإن أردنا التذكّر فليس هناك ما هو أفضل من الذاكرة للقيام بذلك. هذا ما كان يردّده الجميع. يعرفون أنّ للذاكرة ثقوباً كثيرة وأنّها ليست محايدة؛ إذ تحتفظ بما تريد وتُغيّب ما تريد. لكنهم لا يعيرون هذا أيّ اهتمام.
أنا الآخر لم أقف أمام مصوّر إلّا عندما بلغتُ سنّ الثالثة عشرة وأكملت الدراسة في المرحلة الابتدائيّة. كان لا بدّ لمواصلة دراستي من اجتياز امتحان الشهادة الابتدائيّة التي تُخوّل لي الانتقال إلى المرحلة الثانويّة. ولاجتياز هذا الامتحان ينبغي إعداد ملفّ يتضمّن صوراً لي.
هكذا وجد أبي نفسه مضطّراً لاصطحابي إلى مدينة القيروان لالتقاط صُوَر لي. قبل ذلك لم يشعر قطّ بأيّ رغبة في اصطحابي إلى مصوّر. لذا لا أعرف كيف كنتُ وأنا رضيع أو في أعوامي الأُولى. كلّ ما لديّ من صور في ذهني عن نفسي في تلك الفترة هي متخيّلةٌ تماماً اعتماداً على ما رواه لي كبار السنّ من عائلتي الذين يتمتّعون بذاكرة قويّة. وأنا على يقين من أنّ جزءاً مهمّاً ممّا يقولونه غير صحيح أو مبالغ فيه، إذ هناك اختلافٌ كبير بل تناقض في أقوالهم.
وفي محاولة للاقتراب قدر المستطاع من صورتي الحقيقيّة وأنا رضيع وطفل، ألجأ في بعض الأحيان إلى صور ابني في أعوامه الأُولى. هناك شبه بيني وبينه الآن. لكن لا شيء يؤكّد لي أنّي كنتُ مثله حين كنت رضيعاً. الشبه يتغيّر بالتقدمّ في العمر. الأجساد تتغيّر تماماً. قسمات الوجه أيضاً. ثمّ إنّ الابن قد لا يُشبه أباه في البداية وإنّما أحد جدَّيه.
وشمُها
ثمّة وشم في وجه أمّي. أنا واثق من الموضع الذي يحتلّه. لم يكن في ذقنها أو على أحد خدّيها وإنّما على جبينها، وتحديداً في وسطه. لا يمكن أن أُخطئ في ذلك؛ فالوشوم على الجبين تكون دائماً في وسطه وفي الموضع الذي يعلو بداية انحدار الأنف.
وجود هذا الوشم هو كلّ ما أزال أذكره من وجهها. صار بمرور الزمن يختزله. بيد أنّي لم أعُد أذكر حجم الوشم ولا شكله. كما أنّي لا أدري إن كان يُمثّل شيئاً ما من الواقع. سمكة أو نجمة أو يد، وهي أشياء يستعين بها سكّان الأرياف لدفع الأذى وطرد "العين الشرّيرة".
أميل إلى أنه مجرّد رسم تجريدي مثل الوشوم البربريّة التي نشاهدها على وجوه النساء في تونس وكلّ البلدان المغاربيّة. خطوط قصيرة أو طويلة. متقاطعة أو متوازية. نقاط متتابعة على نحو ما. أشكال هندسيّة تشبه المثلّثات والمربّعات والدوائر.
لا شكّ أنّه كان يضفي على وجهها شيئاً من الجمال. الوشوم في تلك الفترة كانت زينة. النساء في الأرياف لم يكنّ يعرفن من الماكياج كما نراه اليوم سوى تكحيل العينين بالكحل. كلّهنّ كنّ يلجأن إلى توشيم وجوههنّ لكي يصبحن أكثر جمالاً، وليس للفت الانتباه أو للتعبير عن موقف ما أو لغاية إيروتيكيّة كما نشاهد لدى نساء اليوم اللواتي جعلن من الوشم موضة.
في بعض الأحيان أبحث في غوغل عن صور لوجوه نساء تونسيّات ريفيّات تحمل وشوماً. أتأمّل بعضها للحظات طويلة ممنّياً النفس بأن أعثر فيها على ما يمكن أن يبعث من أعماق ذاكرتي شيئاً ما يحيلني ولو بشكل غير مباشر إلى وشمها. لكن لم أجد أيّ شيء.
هل كان وشمها مختلفاً عن وشوم النساء الأخريات؟ هل هي التي طلبت ذلك؟ لا أظنّ. الوشّامة هي التي تُقرّر في العادة ما توشّم. النساء يكتفين بتحديد مكان الوشم. هل قرّرت الوشّامة لسبب ما أن ترسم لها وشماً متميّزاً لا يشبه أيّ واحد من كلّ الوشوم التي كانت تقوم بها؟
صوتها
صوتها أيضاً ضاع منّي. تبخّر شيئاً فشيئاً كما يتبخّر دخان شفّاف. لا أدري لماذا أتخيّله دائماً رقيقاً وبه ما يشبه الخنّة الخفيفة.
وجهها
كلُّ قسمات وجهها اختفت تماماً، أو أمست باهتة جدّاً إلى درجة يستحيل معها استعادتها. لديّ أختٌ تكبرني بسبعة أعوام لا تزال على قيد الحياة. هي الأُخرى لم تعُد تذكُر شيئاً من قسمات وجه أمّنا. الحقيقة أنّ ذاكرتها أضعف بكثير من ذاكرتي. كان من الممكن أن أعتمد على قسمات وجهها للقبض على بعض ملامح وجه أمّي. لكنّ الجميع يقولون إنّها لا تشبه أمّي إطلاقاً، وإنّما إحدى عمّاتي.
قامتها
الشيء الوحيد منها الذي لا يزال ماثلاً في ذاكرتي هو قامتها. كانت طويلة ونحيلة. بيد أنّ هذه القامة تحضر غائمة. كتلة رمادية بلا ملامح وبلا تخوم أشبه بشبح طويل طالع من حلم نستعيده بعد اليقظة بوقت طويل... أو من سراب في يوم قائظ.
* روائي تونسي مقيم في فرنسا