استطاع معرض "بغداد قُرّة العين" الذي افتتح في 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي بـ"متحف الفن الإسلامي"، ويستمرّ حتى 25 فبراير/ شباط 2023، تقديمَ وجبة بصرية ومعرفية غنية لمدينة عزّ نظيرُها في العالم الإسلامي، إذ بقيت لما يقرُب من خمسة قرون أهمّ مدينة تجارية متعدّدة الثقافات في العالم.
يأتي المعرض في إطار فعاليات العام الثقافي "قطر - الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا 2022"، مستثمِراً 160 قطعة من متاحف عالمية ومؤسّسات ثقافية ومجموعات شخصية التأمت لتعاين هذه المدينة منذ تأسيسها عام 762 للميلاد، بوصفها عاصمة جديدة للعباسيين (750 - 1258) الذين حكموا ثالث الخلافات الإسلامية بعد الخلفاء الراشدين، والدولة الأموية، وسرعان ما أصبحت أعظم عاصمة لخلافة امتدَّت أراضيها من المحيط الأطلسي إلى آسيا الوسطى.
مدينة السلام
ولئن جاء عنوان المعرض من بيت الشعر "من ذا أصابكِ يا بغداد بالعين/ ألم تكوني زماناً قُرّة العين" لعمرو بن عبد الملك الورّاق، الذي عاش في القرن التاسع الميلادي، محتفياً بازدهار بغداد التي سُرّت بها عين الناظر فهي قريرة العين، فإنّ لعنة الجناس التام أتت بعين أُخرى، ألا وهي عين الحسد التي نظرت إلى زوال نعمتها.
"مدينة السلام"، هذا هو اسمها عندما بحث الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور (714 - 775) عن عاصمة لخلافته الجديدة وقعت عينه على مكان خصب على نهر دجلة تتقاطع فيه طُرق التجارة التاريخية. كان الموقع بعيداً عن دمشق عاصمة الأسلاف الأمويين، وقريباً من قطيسفون مقرّ الساسانيين قبل الإسلام الذين حكموا العراق وإيران لقرون من قبل.
بقيت خمسة قرون أهمّ مدن العالم المتعدّدة الثقافات
ومن تلك المرحلة التاريخية حتى اليوم، حيث بغداد مدينة ضخمة تضمّ حوالي ثمانية ملايين نسمة، جال المعرض في المدينة إبان عصرها الذهبي العباسي، ورغم تدمير المغول بغداد في عام 1258، والذي نتج عنه انتهاء الحكم العباسي إلّا أنها استمرّت مدينة بارزة في القرون التالية، دون أن تغفل الإضاءة على الإنجازات التي حقّقتها في القرن العشرين، إذ مع اكتشاف النفط شهدت المدينة فورة اقتصادية هائلة، جلبت معها عهداً متجدّداً من الازدهار والحداثة.
1200 عام
عبر ما يزيد عن 1200 سنة يقدم المعرض بغداد عبر اختراعاتها العلمية، وفنونها وحِرفها وتاريخها المتقلّب بين مدينة سلام ومدينة حرب، مستكشفاً مجالات الحياة الحضرية المختلفة، بدءاً من تأسيسها لتكون مقرّاً للخلفاء، وتحوُّلها إلى مركز فكري وتجاري، وصولاً إلى شعبها الغني بثقافاته المتعدّدة ومساهماته الفنية.
ففي ذروة حُكم العباسيين كانت بغداد أشبه بخلية نحل للنشاط الفكري. جُمعت النصوص القديمة المكتوبة قبل الإسلام باللغات اليونانية والبهلوية والسنسكريتية وترجمت إلى العربية. كان هذا التعطّش للمعرفة مدعوماً من مجتمع بغداد المتنوّع والمتعلّم، سواء كان في بلاط الخلافة، أو لدى الأفراد ذوي الموارد المالية الميسورة.
نتج عن هذ الجهد الأكاديمي اكتشافاتٌ أصيلة في العديد من المجالات العِلمية، وترجمت هذه النصوص العربية لاحقاً إلى اللاتينية واللغات الأوروبية الأُخرى، كما تدلّ بعض النماذج المقدَّمة في هذا المعرض، ما ساهم في تطوير المعرفة العلمية في أوروبا إبان العصور الوسطى وعصر النهضة من القرن الثالث عشر إلى القرن السادس عشر.
هذا النشاط التأليفي الكبير سيجعل بغداد تؤسّس أول مصنع للورق عام 794، بعد أن كانت تستورده من الصين، وصارت فنون الخط العربي التي تتبارى في التجويد، وتفضّل خط النسخ لسهولة قراءته، وشيوع المعرفة وطلب العلم من ثقافات مختلفة عبر العالم.
الوفرة الاقتصادية
وما كان للحياة الثقافية والفكرية الفنية التي ميزت المدينة أن تنتعش وتنمو، لولا الازدهار الاقتصادي الذي شهدته. تتميز بغداد بخصوبة أراضيها نظراً لتموضعها بين نهري دجلة والفرات، حيث بنى العباسيون حولها شبكة من القنوات لري الأراضي الزراعية زودت الإمبراطورية العباسية بأكملها بالغذاء. كما ازدهرت أسواق بغداد وجذبت التجّار من جميع أنحاء العالم، بحثاً عن السلع الكمالية. بين جنبات المعرض نماذج من صناعات الزجاج والخزف والأخشاب المزخرفة والجفنات المزجَّجة بالكوبالت الأزرق. والمنسوجات التي اشتهرت هناك، ومنها ما كان يسمى "الطراز". هذا مثال عليه صدار نُسج في ورش تحت رعاية الدولة، وهو عبارة عن قطعة أندلسية من كتّان وقطن وفراء أرنب، مُطبّعة بالذهب منقوش عليها "هذا صنع في مدينة بغداد حفظها الله".
ومن المحتمل أن تكون القطعة صُنعت في مدينة ألمرية بحلول القرن الثاني عشر، حيث أصبح الحرير والبروكار الذي يقلّد المنسوجات العراقية ينتج بكميات كبيرة، ومن المحتمل أن تكون الأصلية قد صُنعت في العتبة إحدى ضواحي بغداد، ولهذا أصبح هذا النوع من القماش معروفاً باسم الحرير العتبي. أما الحلي الثمينة فنعثر على نماذج باذخة منها قطعة مشغولة من صفائح الذهب المطروق والنافر مع برغلة وأسلاك ملتوية، وأقراط منها على شكل هلال مع زخرفة مخرّمة، وأساور مرصّعة بأحجار الجمشت والفيروز.
النمط المعماري
هناك العديد من الرسومات التي عرضها المعرض من بطون الكتب توضّح خريطة بغداد وعمرانها، حيث جاء العباسيون بحقبة من الحكم القوي، رعوا خلالها الهندسة المعمارية التي تميزت بآثارها وجمالها وفنونها، مُقيمين بلاطهم في بغداد وسامراء، فبَنوا قصوراً مهيبة ذات تصميمات داخلية فخمة، ومنشآت متداخلة وأجنحة وحدائق واسعة ومضامير للسباقات.
وقد حدّدت هذه الهياكل المعقّدة التي كانت رموزاً للثروة والسلطة، الاتجاهات الفنية والمعمارية المنتشرة في أنحاء الخلافة العباسية، وفي هذا الجانب ثمّة ألواح من خشب الساج والصنوبر عامرة بالزخرفة.
لبغداد المعاصرة وشارع المتنبي نصيبٌ في المعرض أيضاً
كما انعكست الوفرة الاقتصادية في سوقٍ متنامية للكتب، بين صفوف القرّاء والمتعلمين الذين وجدوا في بغداد العباسية وجهتهم المثالية، فقامت فيها مؤسسات تعليمية ومكتبات شهيرة مثل "بيت الحكمة"، جذبت الطلاب والعلماء من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
في الوقت الحاضر يمكن لعشّاق الكتب التجوّل في مكتبات شارع المتنبي القلب النابض للمشهد الأدبي في بغداد. وهنا يقدم المعرض جانباً من الشارع في أعمال فنية وصور فوتوغرافية تعلوها على شاشة عرض قصيدة للشاعر والروائي العراقي سنان أنطون "رسالة إلى شارع المتنبي" وفيها: "كم كنتَ على حقّ/ ما زالت كلماتك/ أجنحة من ضوء/ تحملك دائماً إلينا/ (وتحملنا أحياناً إليك)/ اسمُك وشم أخضر/ على وجه بغداد المتعب"
مدينة الحرب
هذا الوجه المتعَب (أو بكسر العين على سبيل الاقتراح) هو ما يدفع المرء إلى استصعاب تخيل أمجاد بغداد الغابرة في مدينة السلام، وهي تتحوّل إلى مدينة حرب في معظم حقبها اللاحقة.
بعد خمسين سنة من تأسيسها استذكر الشاعر العباسي أبو تمام أول حصار لبغداد، دون أن يدري أن هناك مصائب أُخرى عديدة آتية، بما في ذلك الغزو المغولي، وهجوم تيمورلنك عام 1401، ومن بعده جاء الصفويون والعثمانيون والإنكليز. إن أقرب الأحداث إلى ذاكرتنا اليوم، هي الحروب التي تعرّضت لها بغداد على مدى العقود الأربعة الماضية، والتي تسبَّبت في خسائر بشرية هائلة ودمار البنية التحتية والاقتصاد، وصولاً إلى الغزو الأميركي واحتلالها عام 2003.
هذه لوحة لضياء العزاوي بعنوان "الوجه القبيح للاحتلال"، وأُخرى بعنوان "لماذا؟" لنزار يحيى، و"حرائق بغداد" لكريم رسن، وهي على بُعد أمتار من رسمة قديمة للحصار المغولي قبيل اجتياحها وخرابها. رغم أن بغداد القديمة لم تصل إلينا بصرياً بالشكل الكافي المشبع، فإن شغف المدينة بالبقاء النوعي عبّرت عنه فنون بغداد الحديثة، وعادت المدينة في القرن العشرين تستلهم العمارة العباسية في نطاق البحث عن هوية حضرية مميزة.
تشكيل وفوتوغرافيا
أما الصور الفوتوغرافية فلدينا كاميرا رفعت الجادرجي ولطيف العاني، وحصيلة تُعنى بحداثة المدينة وتنوّعها في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وتظهر مجتمعها وأنشطتها اليومية المختلفة قبل انجراف البلاد إلى عقود من النكبات المتوالية.
وتقاسمت الفنون التشكيلية مع الفوتوغرافية التعبير المعاصر عن بغداد، فهذا "نُصب الحرية" وسط العاصمة العراقية، حيث يمنح المعرض المشاهد لحظة عاطفية، أمام الرسم التخطيطي التمهيدي الذي اشتغل عليه جواد سليم، ليصبح فيما بعد أحد رموز بغداد.
لوحة لمحمد غني حكمت "باب الغرباء" تذكّر بثيمات أبواب سامراء، وسلسلة أعمال لحسن مسعودي بعنوان "أرضعتني العراق ثدي هواها وغزتني بطرفها بغداد"، ولوحة "حلاق" لفائق حسن، و"نساء في المقهى"، و"سوق في بغداد" لحافظ الدروبي، و"ألف ليلة وليلة" لضياء العزاوي، و"عرس عراقي" لماهود أحمد، و"الملوية" لهيف كهرمان المُنجزة من ورق اللعب، مُصوّرة المئذنة الأيقونية للجامع العباسي في سامراء، ولوحة بدون عنوان للورنا سليم تصوّر امرأة وطفليها.
كلّ هذا محفوف بموسيقى بغداد التي لطالما كانت جزءاً مُهمّاً من التراث الثقافي العراقي. لقد طور الكندي وأبو الفرج الأصفهاني العديد من الدراسات الموسيقية. ومن الإسهامات الرئيسة التي لا تزال مستخدمة في الموسيقى العربي إلى اليوم، إنشاء نظام من الأنماط اللحنية تُسمّى المقامات.
أدرج المقام العراقي في قائمة اليونسكو للتراث غير المادي عام 2008. واشتهرت الموسيقى العراقية بدءاً من عشرينيات القرن الماضي وصولاً إلى الخمسينيات من خلال فنانين مثل: صالح الكويتي، وداود الكويتي، وسليمة مراد، ومحمد علي القبانجي.
كما يضم معرض "بغداد قُرّة العين" قطعاً مستعارة من "مكتبة الفاتيكان الرسولية"، و"متحف اللوفر" في باريس، و"متحف متروبوليتان للفنون" في نيويورك، و"متحف الفنون الجميلة" في بوسطن، و"متحف الفن الإسلامي" في برلين القسم الشرقي منه، و"المكتبة الحكومية" في برلين، و"مكتبة ولاية بافاريا في ميونخ، و"مجموعة ديفيد" في كوبنهاغن، و"متحف بيناكي" في أثينا، و"مؤسسة بارجيل للفنون" في الشارقة، و"مجموعة ضياء العزاوي"، و"المكتبة البريطانية" في لندن، و"مكتبة تشيستر بيتي" في دبلن.