في فرنسا، يمثّل برتران بديع أحد أبرز المراجع الأكاديمية في ما يخصّ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، حيث تخرّج على يديه، منذ دخوله عالم التدريس مطلع الثمانينيات، أكثر من جيل من الطلبة (وقد بات بعضهم دبلوماسيين في يومنا هذا)، كما ساهم في إغناء المكتبة الفرنسية، كمؤلّف ومسؤول نشر، بالعديد من العناوين المهمّة لفهم صراعات ونزاعات تلمّ بعالمنا، ولفهم سياسات وتوجّهات ومواقف قد يعجز التحليل اليومي المتعجّل عن فهمها.
خلال هذا المسار المِهَنيّ والأكاديمي، لم يترك بديع "علاماتٍ" كثيرة حول حياته الشخصية وسيرته، وكأنّنا لسنا بحاجة لذلك، أو كأننا أمام أستاذ "عاديّ" للعلوم السياسية، مولودٍ في عائلة برجوازية باريسية تملك كل وسائل الراحة؛ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف استطاع توقيع أكثر من 40 كتاباً، بالفرنسية والإنكليزية، والتدريس في عدد من أبرز صرح التعليم في فرنسا، مثل "مدرسة العلوم السياسية" بباريس، إلى جانب مهامه الإدارية الأخرى في مراكز أبحاث ومهامه التحريرية في دور نشر ومجلات؟
عند السادسة والنصف من مساء الثلاثاء المقبل بتوقيت باريس، يستضيف فرع "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في العاصمة الفرنسية برتران بديع للحديث عن كتابه السيَري "العيش بين ثقافتين: كيف يمكن أن تولَد فرنسياً وفارسياً؟"، حيث يحاوره في الجلسة الباحث المختصّ بالثقافة والسياسة العربيتين، فرانسوا بورغا.
في كتابه هذا الذي أصدره نهاية 2022 لدى "منشورات أوديل جاكوب"، يعود بديع للمرّة الأول إلى مساره الشخصي والمِهَني، ومسار عائلته، ولا سيّما والده الذي عانى الأمرّين في فرنسا التي جاءها عام 1928 لدراسة الطب وبقي فيها بعد زواجه من سيّدة فرنسية.
ويسرد بديع أن والده، رغم عمله كطبيب قدّم الخدمات لكثير وأنقذ كثيرين، ورغم مشاركته في المقاومة خلال الحرب العالمية الثانية، ظلّ يعاني من الانغلاق والتعالي والرفض في فرنسا. أمرٌ سيتكرّر مع ابنه، الذي درس في صغره في مؤسّسة تعليمية كاثوليكية خاصّة وكان عليه أن يسمع عشرات الشتائم والصفات العنصرية المقذعة التي تُطلَق على العرب واليهود.
كلّ هذه التصرّفات لم تحل دون تفضيل بديع، ووالده قبله ــ الذي يقول إنه البطل الحقيقي للكتاب ــ لنمط حياة قائم على الانفتاح على الآخر، والتعلُّق بشدّة بالتنوّع، وهو الجواب الذي يقدّمه الباحث الفرنسي الإيراني على السؤال المطروح تحت عنوان كتابه: نعم، يمكن للمرء أن يُولَد وأن يبقى في الآن نفسه فرنسياً وفارسياً، أو فرنسياً وعربياً. لكنّ ذلك قد يكون مشروع حياة كاملة، ويتطلّب الكثير من الشجاعة والإصرار، كما هو الحال في تجربة بديع.