شكّل القرن التاسع عشر محطّةً أساسية في انطلاق الصحافة العربية، ففيه شاعت الأفكار النهضوية، وفيه باتت العربية لغةً أكثر عموميةً، بفضل مُصلحِين ومشتغلِين عديدين في علومها. وهذا الأمر استمرّ أثرُه خلال النصف الأول من القرن العشرين، والذي مهّد الطريق بشكل فعليّ للصورة التي ستستقرّ عليها الصحافة العربية في وقتنا الحالي.
النظر في هذا الأرشيف، والعودة إلى أبرز محطّاته التاريخية، هو ما ينشغل به معرضٌ بعنوان "بدايات الصحافة العربية"، افتُتح في العاشر من حزيران/يونيو الجاري، في "متحف نابو" الواقع في منطقة الهري، شمالي لبنان، ويتواصل حتى السادس عشر من أيلول/سبتمبر المُقبل.
يُتيح "بدايات الصحافة العربية" فرصة الاطّلاع على قرابة أربعمئة نسخة من صُحف تلك الفترة، ويشمل مساحة جغرافية متنوّعة؛ بدايةً من لبنان، الذي كان قطباً حيوياً في النهضة العربية، من خلال جملة أعلام ومفكّرين، وصدّر أول صحيفة في بيروت عام 1858 بعنوان "حديقة الأخبار".
تتنوّع العناوين المعروضة بين الأدب والسياسة وحقوق المرأة
وتحضر بالتأكيد مصر التي احتضنت، قبل ذلك، أول صحيفة عربية: "الوقائع المصرية" التي أصدرها، باللُّغتين العربية والعثمانية، والي مصر محمد علي باشا عام 1828، قبل أن تكتفي بالضاد فقط. كما يلتفت المعرض إلى الصحف المِهْجرية، والتي اشتغل عليها أدباء وشعراء توزّعوا في بلدان مختلفة من أوروبا إلى دول القارَّتَين الأميركيَّتين اللتين شهدتا هجرةً أولى من لبنان بالذات.
تعكس الصحف المعروضة مروحة من الأفكار السياسية والأحوال الاجتماعية، والتي من خلالها يستطيع الزائر الاطّلاع على تفاصيل عديدة عن أواخر فترة الحُكم العثماني. فالجرائد، في ذلك الوقت، كانت لسانَ حال تيّارات فكرية وَجِهات سياسية متعدّدة، مأخوذة باستقطابات ومواضيع لا نبالغ لو قلنا إن بعضها ما زال مستمرّاً وقائماً إلى اليوم. وهذا ما تُمكن ملاحظتُه، ونحن نُطالع سِيَر مؤسّسي وأصحاب الصُّحف (المُرفقة بجوار بعض الوثائق الأرشيفية المعروضة)، حيث تنقّل هؤلاء بين (وبعضهم كان مُلاحقاً سياسياً) مُدنٍ كالأستانة وطرابلس وبيروت والقاهرة والإسكندرية؛ دون أن نغفل دَور مدن أُخرى من خارج هذه القوس العربية الإسلامية، مثل باريس ولندن ونيويورك وغيرها.
وممّا تُحيل إليه العناوين، أيضاً، تصنيفُ المطبوعة في موضوعها ذاته؛ فمنها ما هو أدبي وآخر سياسي اجتماعي، وثالث ساخر نقدي، إلى جانب الحضور المُبكّر واللافت للنساء، اللواتي دَعَين إلى حرّية المرأة والالتفات إلى قضيّتها في المقام الأوّل. ومن تلك العناوين التي يضمّها المعرض: "نفير سورية" التي أصدرها بطرس البستاني عام 1860؛ و"العصر الجديد: جريدة سياسية تجارية عِلمية صناعية أدبية زراعية"؛ و"لسان الشرق: جريدة عِلمية تجارية سياسية أخلاقية"؛ و"الفتاة" التي أسّستها في الإسكندرية الكاتبة اللبنانية هند نوفل، وهي مطبوعة متخصّصة في قضايا النساء وشؤونهنّ وذات طابع تحرُّري؛ وكذلك "العروة الوثقى" التي أنشأها جمال الدين الأفغاني ومفتي الديار المصرية محمد عبده.
أمّا الصحافة الساخرة، فمنها: "حمارة منيتي" التي صدرت عام 1900 في عهد الخديوي عباس، وخُطَّ تحت عنوانها الرئيسي: "جريدة هزلية فكاهية شقلباظية وأحياناً أدبية سياسية انتقادية حلنجية أسبوعية، ثمن النسخة قرش صاغ واحد"، إلى جانب أسماء أُخرى مثل: "السعدان"، و"حطّ بالخرج"، و"العفريت".