أواخر العام الماضي، وبمناسبة الذكرى الـ130 على صدورها في باريس عام 1890، صدرت في مدينة بريشتينا الكوسوفية الترجمة الألبانية الثالثة لرواية "بارذا تيمال" (دار "ديّا")، التي تُعتبر من أوائل الروايات في الأدب الألباني، رُغم أنّها كُتبت بالفرنسية، في جبل لبنان. ولكنّ الرواية حازت هذه المكانة بفضل موضوعها، الألبانيّ البحت، الذي يصوّر الحياة والأوضاع في المجتمع التقليدي في المنطقة التي نشأ فيها مؤلّفُها، باشكو فاسا.
بعد ترجمة أولى أنجزها عمر ياكا وصدرت في بريشتينا عام 1969، وثانية وقّعها سوتير تشاتشي وظهرت في تيرانا الألبانية عام 1987، لم يعد صدور ترجمة جديدة للرواية، من الفرنسية، يثير إشكالاً، ولا سيّما أنّ تعدّد الترجمات بات يُعتبَر مؤشّراً على الفهم المتجدّد للعمل الروائي، كما جرى أخيراً بالتوازي مع مئوية فيودور دوستويفسكي الثانية، والتي كشفت عن وجود عشرين ترجمة فرنسية لروايته "الجريمة والعقاب".
ولكنّ المهمّ، هنا، هو السياق الذي جاء فيه المؤلِّف إلى لبنان، ومغزى الرواية بالنسبة إلى تلك الحقبة في السياق العثماني، وراهنيّتها التي تبرّر ترجمتها الثالثة هذه، التي وضعها عزت سيلاي.
الثائر الشاب
وُلد باشكو فاسا عام 1825 في عائلة كاثوليكية بمدينة شكودرا، عاصمة ألبانيا القديمة، والتي بقيت عاصمة الثقافة الكاثوليكية لقربها وصِلاتها مع الفاتيكان. ذلك أنّ المدينة تطلّ على البحر الأدرياتيكي، وهو يفصلها عن إيطاليا التي كان لها تأثير واضح في ألبانيا الشمالية. تميّز باشكو فاسا بشغفه باللغات، بحُكم مكانة المدينة؛ حيث ألمّ بالإيطالية والفرنسية والإنكليزية واليونانية والصربية، بالإضافة إلى الألبانية والعثمانية، وبعض العربية التي تعلّمها لاحقاً. مع هذه الحصيلة من المعرفة اللغوية، اشتغل باشكو فاسا سكرتيراً لدى القنصلية البريطانية في المدينة بين عامي 1842 و1847.
ساعده إلمامه بعدّة لغات على العمل مبكّراً في السياسة
في غضون ذلك، كانت إيطاليا تغلي بالأفكار الثورية التحرّرية، وتشكّلت حركة مقاومة لتحرير البندقية من الحكم النمساوي وتوحيد إيطاليا. وقد التحق الشاب فاسكو، عام 1848، بهذه الحركة للدفاع عن البندقية ضد القوات النمساوية، إلى أن اعتُقل ورُحّل إلى بلاده.
بعد إطلاق سراحه، توجّه باشكو فاسا إلى إسطنبول، حاملاً معه خبرته في اللغات والمناطق الغربية للدولة العثمانية، حيث بدأ صعوده التدريجي في الهرمية الإدارية في العاصمة، ثم في ولايات متعدّدة. هكذا، تولّى، في حلب، منصب معاون ثم مدير الشؤون السياسية بين عامي 1866 و1868، ثم عمل مستشاراً لولاية كوسوفو في 1878، وعضواً في مجلس الدولة، ومدير قلم الصحف والمطبوعات في العام نفسه. في غضون ذلك، بدأ يبرز لديه اهتمامٌ بالشعر والنثر في لغته الأم، وفي الفرنسية والإيطالية. وقد نشر في هذه اللغة الأخيرة مجموعته الشعرية "ورود وأشواك" (1873)، كما أصدر مؤلَّفَه المرجعي "حقائق عن ألبانيا والألبان" بالفرنسية عام 1879، ليُترجَم لاحقاً إلى العديد من اللغات.
من النهضة الايطالية إلى النهضة الألبانية
أصبح باشكو فاسا، خلال إقامته الطويلة في إسطنبول، من النخبة الألبانية المثقّفة في المدينة، والتي كانت تشغل مناصب مهمّة في الدولة، وأبدت عنايةً خاصّة بموضوع اللغة واعتماد أبجدية واحدة للألبانية، بعد أن كانت تُكتب في عدّة أبجديات (العربية عند المسلمين، واللاتينية عند الكاثوليك، واليونانية عند الأرثوذكس). كان الهدف من ذلك نشر الكتب بحروف واحدة، لبثّ الوعي، لدى الألبان، بهويّتهم الثقافية المشتركة التي توحّدهم، مسلمين ومسيحيين. وقد عبّر باشكو فاسا عن هذا التوجّه الجديد بقصيدة معروفة، لا تزال تتردّد في الكتب المدرسية الألبانية: "يا ألبانيّتي، يا ألبانيا التعيسة/ من أوصلك إلى هذه الحالة؟/ اصحوا أيها الألبان من نومكم/ واجتمعوا كأخوة على عهد يجمعكم/ لا تذهبوا إلى الكنيسة والجامع/ فدِينُ الألباني هو الألبانوية".
كانت تلك السنواتُ سنواتِ تشكُّل وظهور القومية الألبانية، التي قامت على أساس اللغة والثقافة المشتركتين، وليس على أساس الدين (سبعون في المائة من الألبان مسلمون، وثلاثون في المائة كاثوليك وأرثوذكس)، وتحوّلت في ما بعد إلى حركة مسلّحة، بين عامي 1878 و1881، وجدت نفسها في صدام مع القوّات العثمانية، لمنع تسليم المناطق التي يسكنها الألبان للدول المجاورة.
بعد قمع السلطة للحركة المسلّحة، تحوّلت جهود هذه النخبة المثقّفة في إسطنبول (التي تضمّ، إلى جانب باشكو فاسا، أشخاصاً مثل شمس الدين سامي ونعيم فراشري وغيرهما) إلى بثّ الوعي القومي الألباني في أعمالها الأدبية، سواء في العثمانية أو في اللغات الأخرى التي يتقنها المثقّفون، مثل الفرنسية، وذلك في محاولة منهم لإظهار التعدّدية القومية ضمن المظلّة العثمانية. وقد كان قبول هذه النخبة بدولةٍ وبمواطنةٍ عثمانيّتين مشروطاً بضمان المساواة لكلّ المكوّنات في الدولة، حيث حرصوا على إبراز الشخصية والهوية الألبانيّة ضمن التعددية التي تقوم عليها الدولة العثمانية، مواجهين بذلك سياسات الدولة الآنية، سواءً في اعتماد أيديولوجية عابرة للحدود (الجامعة الإسلامية) أو في تسيُّد عنصر واحد (الأتراك) على بقية العناصر.
في هذه الظروف جاء تعيين باشكو فاسا، عام 1883، متصرِّفاً على جبل لبنان، الذي كان يتمتّع بحكم ذاتي منذ عام 1861؛ وهو خيارٌ يُظهر الميل إلى تسمية إداريّ عثماني مسيحي لتسيير أمور الجبل. وقد بقي باشكو فاسا في منصبه هذا ولايةً ثانية، حتّى وفاته في 1892، حيث دُفن في بلدة الحازمية، وبقي رفاته هناك إلى 1978، حيث استردّته الحكومة الألبانية ووارته الثرى في موطنه، باحتفال مهيب.
شغل منصب حاكم جبل لبنان لتسع سنوات ودُفن قرب بيروت
خلال سنواته في لبنان، بقي باشكو فاسا منشغلاً بالأدب، حيث ألّف، بالفرنسية، روايته "بارذا تاميل"، التي نُشرت في باريس عام 1890. كما نشرت مجلة "الجنان" اللبنانية، بالعربية، دراسته التي نُشرت سابقاً بالفرنسية: "حقائق عن ألبانيا والألبان".
باعتباره حاكِماً لجبل لبنان، فضّل باشكو فاسا أن ينشر روايته باسم مستعار يعبّر عن أصوله، وهو ألبانوس ألبانو (Albanus Albano)، ووضع تحت عنوان الرواية عبارةَ "مشاهد من الحياة الألبانية". تدور أحداث الرواية بين مدينة شكودرا العريقة ومرتفعات تيمال المجاورة، شمال ألبانيا. وهي بذلك تعكس التباين الاجتماعي بين عالمين: عالم المدينة ذات التقاليد المتجذّرة، والذي يحتضن أيضاً مقرّ السلطة العثمانية (مقرّ الوالي)، وعالم المرتفعات الجبلية الذي كانت تقطنه العشائر وتحكمه القوانين والأعراف العشائرية، التي يمثّلها زعيم العشيرة المحلّية.
رواية عن الحبّ المحرّم
على المستوى الأول، الاجتماعي، تمثّل الرواية عرضاً للأحوال السائدة، من خلال شخصيّة الفتاة بارذا، ابنة المدينة، التي يقرّر أهلها تزويجها لزعيم العشيرة في مرتفعات تيمال، بسبب مكانة أسرته. وبعد هذا الزواج، يسمح الزوج، حسب العادات، لزوجته أن تزور أهلها بعد سنة كاملة. لكنّ بارذا ستتعرّف، في المدينة، على شاب وسيم (آردي) تقع في حبّه، وهو الحبّ الفعليّ الأوّل في حياتها، لكونها لم تكن تكنّ أي مشاعر لزوجها. سيضعها هذا الحبّ في صراع بين احتمالين: الهرب مع الحبيب والفضيحة، أو الاستسلام للأمر الواقع والرجوع إلى الزوج رغم التعلّق بشخصٍ آخر.
في النهاية، تخضع بطلة الرواية للتقاليد وتقرّر الرجوع إلى زوجها ودفن حبّها مع آردي، ولكنّها ستدفع حياتها ثمناً لهذا الخيار. فأهل الزوج، وأمّه بالتحديد، لم يكونوا راضين عنها كلّ الرضى. ذلك أنّ الفتاة، في المعايير العشائرية، تُقاس بقوّتها وقدرتها على إنجاب الأولاد، وهو ما لم تُفلح به بارذا. ونظراً لأنّ زوجها كاثوليكي، أي أنّه لا يستطيع تطليقها، وإذا طلّقها فلا يمكن له أن يتزوّج، بحسب التقاليد المحلية، فقد وجدت الحماةُ في قتل بارذا وسيلة للتخلّص منها، لكي تُفسح المجال لابنها بالزواج ثانية وإنجاب أولاد.
تُصوّر روايته واقع الحكم العثماني بشكل دقيق ونقدي
على المستوى الثاني، السياسي، نجد أن الرواية تجمع بين الشخصيات الإيجابية التي تمثّل المجتمع الألباني الساخط، والشخصيات السلبية التي تمثّل الحكم العثماني الفاسد. من هذه الشخصيات ميهيل، وهو اسم والد المؤلف، الذي يتعاطف مع المتمرّدين على الحكم العثماني ويمدّهم بالمال والسلاح، ولكنّه اجتماعياً لا يختلف عن غيره، ويُرى ذلك في ردّة فعله عندما يرى شابّاً يقبّل ابنته. ومع ذلك، نجد أنّ سخطه لا حدّ له ضدّ مظاهر الرشوة والظلم، إلى حدّ أنه يتساءل بألم: "للأسف كم عُيّن مثل هؤلاء لحكم ألبانيا؟".
وحسب المثل التركي، القائل بأنّ "السمكة يبدأ فسادُها من الرأس"، نجد في الرواية الوالي عثمان باشا ممثّلاً لرأس الفساد والاستبداد الذي يمتدّ لأسفل المجتمع. فمن أجل تثبيت حكمه، يسعى إلى إثارة النزاعات بين الألبان على أساس طائفي، وعندما يُلام لتصرّفات كهذه، باعتبارها تتعارض مع القانون، يصيح كما فعل لويس الرابع عشر قبله: "أيّ قانون! أنا القانون!".
قد يبدو مستغرباً أن يقوم حاكم لبنان بكتابة رواية كهذه، ونشرها بالفرنسية في باريس، رغم تقديمها تلك الصورة النقدية، التي تمثّل بلاده أصدق تمثيل على مستوى الصراعات القائمة بين القديم والحديث. وعلى أيّ حال، فإنّ تصوير واقع الحكم العثماني بهذا الشكل الدقيق، والنقديّ، لم يكن نموذجاً يقتصر، في ذلك الوقت، على باشكو فاسا، بل يشمل أيضاً مجايليه من حلقة إسطنبول، مثل شمس الدين سامي، ونعيم فراشري، وقد سعوا جميعاً إلى استخدام الرواية والمسرح والشعر من أجل بثّ الوعي بالهوية القومية، ضمن التعددية التي تميّز الدولة العثمانية.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري