فرنسا، هذا البلد الأوروبي "الساحر"، يبدو أنه يمرُّ بعاصفة اجتماعية وسياسية، فقد احتلّ المرتبة الأولى في الاتحاد الأوروبي من حيث جرائم القتل، وأعمال العُنف والانتحار، والأرقام تتضاعف كلّ يوم أكثر من سابقه، ذلك أنَّ اثنين من كلّ ثلاثة مواطنين فرنسيّين يعتقدان أنَّ فرنسا صارت موطنَ التشاؤم، وأنّ بلادهم في حالة تدهور.
وبالفعل مَن ينظر إلى فرنسا اليوم سيراها أمّةً مُقسّمة إلى العديد من الجُزر والحواضر التي ترأسها باريس، والتي يعيش فيها القِسْم الأكبر من الفائزين بحصة العولمة. إلّا أنَّ أرخبيلاً من السكّان المنفصلين أو المعزولين في مدن صغيرة، وفي الأطراف الحضرية، يفسّرون كلّ ما هو جديد وبعيد على أنّه تهديد ينطوي على صراعات عرقية وثقافية.
هذا ما يكشفه الصحافي والكاتب الإسباني إنياكي خيل، المختص بالشأن الفرنسي، في كتابه الجديد "باريس تحترق: الثورة الفرنسية الجديدة" ، والصادر حديثاً عن دار "سيركولو دي تيزا".
يُشرِّح المؤلّف في كتابه أزمة الهوية التي تعيشها البلاد، لا سيّما وأنّ نسبة 62 بالمئة من المواطنين يعتقدون أن نظرية الاستبدال العظيم "تُنفَّذ على مهل وبِدَمٍ بارد". كما يستطرد في تفنيد "نظرية المؤامرة اليمينية"، والتي تزعم أنّ السكان الكاثوليك البِيض، والسكان الأوروبيين المسيحيّين عموماً، يجري استبدالُهم بشكل منتظم بغير الأوروبيين، وخاصة العرب والبربر والأفارقة.
ويستعين الباحث بالأرقام حيث تعتقد نسبة 62 بالمئة من السكان "أن فرنسا لم تعد منزلهم"، في حين يظنّ 40 بالمئة أن "الإسلام يتوافق مع قيم المجتمع الفرنسي"، ولا تتردّد نسبة 45 بالمئة من المواطنين في التعبير عن أن "المهاجرين يبذلون جهداً من أجل الاندماج".
لكنّ هذا مجرد موضوع واحد من الموضوعات التي يقرّبنا منها خيل، حيث أننا ننتقل عبر ما يزيد عن 400 صفحة من التجارب والأفكار الموثّقة، والتي تظهر يومياً في الصحافة الفرنسية، حيث يرى أنّ العاصمة الفرنسية باريس تبدو كأنها جزيرة في عرض البحر، منفصلة على المدن الصغيرة وعن محيطها. "إنها دولة منقسمة ومقسّمة برأيه"، وقد عمّقت سياسات ماكرون من هذا الانقسام، ليس على الصعيد الإداري فحسب، بل حتّى على صعيد السكان بين المدن.
ويرى خيل أنّ المحور التقليدي لليسار قد تم كسره من قبل اليمين، وبالتالي استولى الشعبويّون المتطرّفون على المشهد، لذلك لن يستغرب حتى أشدّ المتفائلين من اليسار أن يرى انجرافاً حتميّاً نحو حكومة برئاسة مارين لوبان.
كما يبحث الكتاب في قضايا راهنة أُخرى مثل: العلاقة مع الجزائر، ووباء كورونا، واحتجاجات السترات الصفراء، والاحتجاجات على إصلاحات المعاشات التقاعدية، ويتناول شخصيات مثل القيادي اليساري جان لوك ميلينشون، والرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، وعمدة باريس آن هيدالغو، ومواضيع مثل الجريمة، والإرهاب، ومشاكل الهجرة والاندماج، ويتطرّق أيضاً إلى أحداث هذا الصيف واحتجاجاته، بعد مقتل الشابّ نائل على أيدي الشرطة الفرنسية.