ضمن فعاليات الدورة الثالثة والعشرين من تظاهرة "أيام قرطاج المسرحية"، والتي تُقام هذه الأيام في فضاءات ثقافية مختلفة بتونس العاصمة، قدّم المُخرج المسرحي الأردني المعتمد المناصير عرضَه، مساء الثلاثاء الماضي على خشبة "المسرح البلدي"، والذي حمل عنوان "بائع متجوّل"، وقد اشترك في الأداء كلٌّ من المُمثِّلين: عمران العنوز، ومحمد الزغول، وميس الزعبي، ورشيد الحسن، ومثنّى الزبيدي، وأمين جبّار.
يعكس العمل ــ المأخوذ عن نصّ بعنوان "موت بائع متجوّل"، للأميركي آرثر ميلر (1915 - 2005) ــ جملةً من الصراعات الحياتية التي تحتدمُ داخل عائلة صغيرة، وتكثّف بواقعية تصوّراً قاسياً عن مجتمعٍ تنهار فيه الذات الإنسانية تحت وطأة المادّة ورأس المال.
يبدأ العمل بمشهد حواريّ بين الرقص والنغمة، ليخلقَ اجتماعُ عازف الفلوت مع الكوريغرافي مَدخلاً يشدّ الجمهور إلى مركز الخشبة، الذي تحوّل ساحةً ليأخذ هذا الحوار مداه، ويبقى السؤال: مَن يُترجِم مقصد وغاية الآخر، المؤدّي أم العازف؟
وبين الحركة والوَقْع الموسيقى، حضرت الإضاءة لتقول كلمتَها حيث الانفراجة بين الاثنين، وإنْ هيمنَت بخُفُوتٍ على سائر تفاصيل المسرحية وزمنها الممتدّ، ولم تكن لتعزّز انكشاف الوجوه إلّا لتُلقي عليها غلالة من ضوءٍ خفيف يشي بملامح تعبة، ويستبدّ بها خوفٌ من المستقبل.
مع تقدّم الصراع واحتدامه، يبدأ الجسد بالحضور أكثر، ليعكس تناقضاتٍ جيلية بين أبٍ مسنّ ويائس، وأبناء شباب يتّقدون حماسة ولكنّهم عاطلون عن العمل. كما يعرض العمل لمشهد بانورامي أوسع لمصير العائلة الكبيرة، بعد أن تدخل شخصية العمّ على الخطّ.
وهنا يصبح الجمهور أمام جُملة مقارنات، لا بين جيلٍ وآخر، بل بين مكان ومكان؛ الأوّل تجتمع فيه عائلة فقيرة، وهي رغم ما يسود بين أفرادها من مشاحنات تعود لتتماسك في نهاية العرض، والثاني تُظهر فيه شخصية العمّ أريحيّتها المادّية، إلّا أنها وحيدة ومعزولة.
يختزن العمل (الذي عُرض نصّه الإنكليزي على الخشبة أوّل مرّة عام 1949) شحنةً من الإشارات إلى واقع المجتمع الرأسمالي، وحال الطبقة العاملة التي تُعاني من عمليّة سحقٍ يوميّة لمقدّراتها الجسدية. أمّا في إعادة القراءة التي اشتغل عليها المناصير، فتُمْكن ملاحظة مقدارٍ من الراهنية والمعاصرة ينضاف إلى ما سبق، حيث أزمات البطالة والفقر ما زالت تتهدّد شرائح واسعة من مجتمعاتنا العربية.
الجدير بالذكر أن "أيام قرطاج المسرحية" كانت قد انطلقت في الثالث من الشهر الجاري، ومن المقرّر أن تُختتم يوم غد.