في نهاية آذار/ مارس الماضي، نزل الخبرُ كالصاعقة (أو هكذا صُوِّر): إغلاق سلسلة مكتبات "جيبر جون" في شارع سان ميشال الباريسي، الذي يُعتبر عاصمة الكتب داخل "عاصمة الأنوار". في الأيام الأولى بعد إغلاق المكتبة، علّق أحدهم ورقة بجانب البوابة المغلقة: "هنا سَقطت المكتبة. روح الحيّ اللاتيني. جيبر جون (1886 - 2021)"، ووُضع إكليل ورد.
لا شكّ في أن هناك ما يبرّر هذا الحزن، وقبله ذلك الذعر، فنحن لا نتحدّث عن أي محلّ لبيع الكتب. يتعلّق الأمر بمكتبة عمرها 135 عاماً، أي إنها استطاعت أن تعيش رغم مرور حربَين عالميّتين حذوها، وسقوط أكثر من نظام سياسي حولها (ثلاثة أنظمة جمهورية عاصرتها في فرنسا). حتى مرحلة الذعر الأول عند وصول فيروس كوفيد-19 إلى أوروبا، ربيع 2020، مرّت بسلام. ثم بعد عام تقريباً حدث المكروه...
مرّت أشهر على هذا الإغلاق، وقد جرى توقّع الأسوأ، في ظل جائحة تتتالى موجاتُها، كأن تنهار تجارة الكتب في مجملها في سان ميشال، وتتحوّل المكتبات إلى مطاعم ومحلات لبيع الملابس الجاهزة. لم يحدث ذلك، ولا حتى وصلت "نيران الحريق" إلى المكتبات المجاورة في الشارع مثل "بولينييه"، وخصوصاً "جيبر جوزيف".
أن تزور إحدى هذه المكتبات يعني أنك ستقف على مفارقة. نحن في زمن التباعد الاجتماعي، ولكن داخل هذه المحلات لا يزال "الازدحام" كما هو من قبل، في القاعة الواحدة ستعدّ بسهولة من عشرين إلى ثلاثين شخصاً يفرزون الكتب ويختارون ما يحتاجونه منها، يُغريهم الطيف الواسع للعناوين المعروضة، وأحياناً أسعارُها المخفّضة التي تجعلك أحياناً معنياً بشراء كتاب لم تتوقّع أن يكون يوماً في مكتبتك.
في أكبر مكتبة في سان ميشال، "جيبر جوزيف"، ورغم اتساع الفضاء، المشهد هو ذاته. نحن أمام مبنى من أربعة طوابق، تنحشر الكتبُ في رفوفه، قديمها وجديدها، ورغم ذلك، يحدث أن تنتظر دورك كي تصل إلى رف سبقك إليه غيرك: الأدب، الفلسفة، العلوم، الروايات البوليسية، الأنثروبولوجيا، التاريخ، الفن (...) لا شيء، تقريباً، مما يصدر باللسان الفرنسي يستطيع أن يُفلت من "جيبر جوزيف"، وإذا لم تجد عنواناً، هناك بين الرفوف، يمكنك البحث في كتالوغ رقمي لتقف على عالم مواز من المؤلفات، وستقف أيضاً على تنشّط تجارة الكتب في مكان آخر.
من داخل المكتبات، يبدو الهلع على مصير الكتاب مجرّد هاجس
أين هذا الذي نراه من الضجيج الذي يُحدثه الضرب المتواصل على نواقيس الخطر الداهم على حال المكتبات؟ من الأرض، ومن داخل هذه المكتبات تحديداً، يبدو الهلع على مصير الكتاب مجرّد هاجس يسكن أعمدة الصحف. لكن، لنعترف، إن الخطر حقيقيّ، وليس مجرّد وهم. لقد وقفنا في المكان الذي يجعل من المفارقة بارزة، مفارقة احتضار المكتبات مقابل ازدهار تجارتها، ذلك أن المشهد في مجمله في غاية التركيب والتعقيد.
مكتبة "جيبر جوزيف"، في النهاية، هي التي سبق أن ابتلعت في 2017 مكتبة "جيبر جون" لإنقاذها من الإفلاس، وفي النهاية - وبحسابات الربح والخسارة - لم يكن ممكناً ترك الغريق يسحب المُنقذ. هناك نقطة تجعل من الاستمرار مستحيلاً. لا يمكن إرضاء محبّي الكتب إلى الأبد، وأن يتمّ هذا الإرضاء على حساب إكراهات السوق والواقع.
هناك قراءة تفيد بأنّ الهدف من إنقاذ "جيبر جون" في 2017 كان إغلاقها ذات يوم والتخلّص نهائياً من منافس في ذات الشارع. تلك قواعد السوق، في النهاية. نظريةٌ مؤامراتية لا يحبّ كثيرون المضيّ فيها، ولكن قد يدعمها الغوص بعيداً في تاريخ المكتبتين، فقد كان الأمر أقرب إلى حرب بين الإخوة الأعداء، طوال قرن تقريباً.
كما في روايةٍ لإميل زولا، تبدأ الحكاية في جيل آخر، الأب جيبر، معلّمٌ في إحدى مدارس الحيّ اللاتيني. في قرن الثورة الصناعية، كانت باريس مسكونة بفتنة الاستثمارات والمشاريع. قرّر السيد جيبر عام 1886 أن يطلق تجارة قريبة من بيئته المهنية، فأنشأ "مكتبة جيبر" لبيع المؤلّفات الأدبية التي كان يدرّسها، ولما كنّا في زمن الجمهورية الثالثة، سرعان ما ازدهرت التجارة، فنحن تحت توصيات الرئيس جول فيري الذي جعل من الرهان على المدرسة عنوان مرحلته، وبالتالي سيجد كل مشروع في هذا الإطار مباركة الدولة.
في كنف تلك المكتبة، تربّى الأخَوان جوزيف وريجيس، وقد كان الأب مظلّة طالما حجبت كل الاختلافات في وجهات النظر حول تسيير المكتبة، فلما رحل في 1915 لم تحتمل السفينة قائدين، ما سيضطرّهما إلى الانفصال عام 1929، فظهرت "جيبر جوزيف" و"جيبر جون"، وقد بدا لاحقاً أن التنافس بينهما يصب في مصلحة سوق الكتاب، حتى بدأت في جيل آخر (نهاية القرن العشرين) تعثّرات في مسار "جيبر جون" كانت تشير بوضوح إلى أن المشروع يسير، بمرافقة التحوّلات الرقمية واهتزاز سوق الكتاب، إلى الإفلاس. وفي 2017 تدخّلت "جيبر جوزيف" لإنقاذ "جيبر جون" من خلال ضمّها، وبذلك توحّدت المكتبات (أو بالأحرى السلسلتان)، مع الإبقاء على الاسمين حيث لا يمكن التخلّي عن اسم تجاري رابح مثل "جيبر جون". هكذا بدا وكأن "رواية زولا" اختُتمت بشكل سعيد في جيل لاحق.
مفارقة تتمثل في احتضار المكتبات وازدهار تجارة الكتب
لا يعني هذا التاريخ الكثيرَ لمرتادي مكتبات سان ميشال، فالأهم استمرار الفضاءات التي يبحثون فيها عن الكتب. لكن، ولكي تستمرّ في تأمين رغبات القرّاء، تغوص هذه المكتبات أكثر فأكثر في المياه التحتية للسوق، ليس سوق الكتب وحده بما يعرفه من تحوّلات، بل أيضاً سوق العقارات، حيث إنّ مكتبات سان ميشال تغطّي مساحات واسعة في منطقة مرتفعة القيمة العقارية في قلب باريس، وبالتالي إلى متى يمكن التصامم عن إغراءات "عرائس البحر"، خصوصاً أنّ خطاب الهلع المنتشر حول المكتبات، الذي تضاعف مع الجائحة، يجعل كل إغلاق مبرَّراً إذا أُثبِت أنه يأتي لمصلحة ثقافية، في هذه الحال إنقاذ المشروع الأكبر، سلسلة "جيبر جوزيف".
في ريبورتاج أنجزته صحيفة "ماريان" حول إغلاق "جيبر جون"، سألت الصحافية كوبيليا ميناردي صاحب كشك يواجه المكتبة، إن كانت تجارته ستتأثر بإغلاق "جيبر جون"، فأجاب: "في الحيّ اللاتيني، ليست المكتبات وحدها التي تموت، هناك أيضاً تلك التجارات الصغيرة من الورود إلى الجرائد، ولكن لا أحد يتحدّث". ثم يُردف: "وأنتم أيها الصحافيون، لا تستيقظون إلا حين يُصبح هذا أو ذاك في التابوت؟".
مع النبرة الساخرة التي تظهر في إجابة بائع الجرائد، نشعر بأن إغلاق مكتبة في شارع سان ميشال بات أمراً عادياً. كيف لا وحالة الهلع على مصير المكتبات لا تهدأ، وبالتالي إن إغلاق هذه المكتبة أو تلك بات في عداد المنتظر، والأسباب متوافرة؛ من نقص القرّاء إلى فيروس كورونا. وما هي إلا أسباب كرّستها العادة أكثر مما يؤيّدها الواقع. لا تزال هناك أسباب كثيرة كي تعيش المكتبات وتزدهر، يكفي أن نزورها كي نعرف ذلك...