5 نوفمبر 1972
جوسلين،
اليوم تسطع شمسٌ تشبهك. استحممت بأشعتها. من النافذة هنا، أرى في البعيد كتلة من المنازل والعمارات، بعض الأشجار: نخلة قصيرة وعلى الخصوص شجرة صفصاف كثيفة الورق. هذا الصباح، أُخِذتُ بمنظر هذه الشجرة، بفيض الأغصان والأوراق التي تخفي جذعها وتتدفق إلى أسفل كشلال نافورة.
إنها منتصبة نحو السماء على شكل موجات متراتبة، تلتقط من حبور نور الشمس الدافئ. هذه الشجرة، هل هي أنا أم هي أنت منبعثة أمام عيني؟ ربما يهطل المطر على الرباط أو ربما تغمر الشمس غرفتك وتجعلك تتخيلين الرؤى ذاتها، تشعرين بوخز الحنين ثم تحمل إليك نَفَسي.
سأحاول في المستقبل تعميق كل هذه الأشياء التي يمكن أن نشعر بها في هذا الوضع: الحياة خارج الأسوار، داخلها ومجمل الترابطات، العين والقلب، الأحلام المتفردة، وظيفة كل حاسة أو عضو، النبض والإيقاع، الموسيقى (لأن كل وضع ترافقه موسيقى معينة أو إيقاع ما). أحياناً أشعر وكأن هذه الموسيقى تخرج من صدري فأسمعها بكل وضوح. نعم، يجب تعميق هذه الأشياء، في المستقبل.
أما الآن ودائماً كأول مرة في العمر، عندما يجفُّ الحلق ويخفق القلب بعنف، أقول لك أحبك، أنت خزان الحنان، يا امرأتي العذبة. كلّي لك.
5 نوفمبر 1974
زوجتي الحبيبة،
لا أدري هل تدركين دائماً نوع الحياة التي أعيشها هنا، كم حاولت أن أصفها لك بكل تفاصيلها وأن أطلعك على أفكاري كما تتبلور، على رؤاي وأحلامي. أجهل أي انطباع يخلق ذلك عندك وأي صورة تكونينها عني من خلال ذلك، كيف تتخيلين هذه المدينة من الانتظار والأمل القوي التي أعيش فيها. إنه لشيء خصوصي ما نعيشه ونحسّ به هنا. كل ما تمكنت من قراءته في الكتب أو مشاهدته في الأفلام، كل ما تخيلته من قبل يختلف إلى أبعد حد من التجربة الملموسة نفسها. كل ذلك يفتقر للبعد الذي هو بالضبط العنصر الأكثر بروزاً من غيره:
إنه هذه المواجهة الدائمة مع الذات وهذا المونولوغ الاستثنائي الذي يعطي للجسد مادية خصوصية. إنه هذا الانبجاس، داخل الذات، لفضاء جديد، لنوع من البوتقة يشتبك فيها الماضي بالحاضر والمستقبل فيُحدث هذا الاشتباك تفجّرات صماء، سيلاً من الصور، جوقة من الأضواء، شلالاً من الحركات. وإذا بهذه البوتقة الداخلية تتحول إلى بعد آخر للإدراك، إلى زوبعة تتحرك ببطء ولا تفارقنا.
يبدو لي أن الواقع (الشمس، الهواء، صوت الآخرين، إلخ...) ينصبّ داخلي كالسيل ويختزن. وأن ما أقوله، أكتبه وأعطيه ليس سوى ذرة هزيلة من خزان البارود الذي تتجمع فيه طاقاتي. إننا عندما نتعود على العطاء الوافر نتألم لكوننا لا نستطيع إعطاء شيء آخر، غير سجننا. وهذا بالضبط ما آخذه على عاتقي رغم الآلام وجراح القلب، وأقول مع نفسي: إن الأمر ليس أكثر إيلاماً من محنٍ أخرى، ربما أكثر تواضعاً (...).
18 فبراير 1976
جوسلين،
(...) الموسيقى، أجل، أفتقر إليها كثيراً. في الواقع، منذ السجن، أصبحت أدرك أهميتها أكثر، أشعر بما يمكنها وحدها أن تعبر عنه في الإنسان: قاراته الداخلية، تحولات حساسيته. إنّها تحقق هذه المفارقة، الظاهرية فقط، أن تكون مجردة إلى أقصى حدٍّ، وأن تكون في ذات الوقت واقعية بشكل كبير، كوسيلة تعبير إبداعية وإنسانية. في الواقع لم أكن في الماضي لا مبالياً بالموسيقى إلى ذلك الحد. كنت دائماً أعشقها كثيراً.
لكني كنت متعصباً إلى حد ما، ولم أكن أتذوّق إلّا ما كان يثيرني تلقائياً وعلى الفور. كانت المسألة مسألة قابلية ثقافية. في فترة ما، كان رفضي باتاً، وعنيفاً، وكان هذا مشروعاً في مرحلة من استرجاع الهوية الثقافية ورفض "الاستلابات". فخلال هذه المرحلة الأولى من صيرورة تشكل الوعي، لا يستطيع المرء تلمس الجزئيات. وهذا ما يفسر قلة تحملي وتفتحي على الموسيقى "الكبيرة"، وبصفة عامة الموسيقى غير العربية (مع بعض الاستثناءات: الموسيقى الروسية، إذا كنت تذكرين، بعض مقاطع الجاز، معزوفات على القيثارة).
أجل سيكون عجيباً أن أعيد اكتشاف الموسيقى معك. كل الألحان الجميلة. في هذا الصدد، هل تعزفين دائماً على القيثارة؟ إنك لم تعودي تتكلمين لي عن هذا. أما أنا فكثيراً ما أغني، بمفردي، فيروز، أوبيريت قيس وليلى، الأغاني الفرنسية القديمة التي كنت تغنينها لي. تضيع مني الكلمات باستمرار وتتقلص محفوظاتي بشكل كبير. لكن بعدما أغني، أشعر بالانشراح كما لو أنني تطهرت داخلياً (...).
12 ديسمبر 1978
زوجتي الحبيبة،
(...) الأسْر يتمدَّد. ثلاث سنوات متبقية. قصيرة وطويلة في آنٍ واحد. الحريّة أصبحت أقل تجريداً وبالتَّالي أكثر إغراء. لا يمكن للمرء أن ينزع من ذهنه العد العكسي. لا يصل الأمر إلى الفكرة الثَّابتة بالطَّبع، ولكن الزَّمن يتأنسن، والمسيرة تصبح وئيدة. شيء واحد أصبح أكيداً، هو أنِّي كلَّما فكرت في ما بعد المنفى، لا يشغل بالي أبداً ماذا سأصبح أنا، وإنَّما ماذا سنصبح نحن، وطننا، رجاله، عالمنا. هل أصبحت رجلاً بلا حاجيات؟ أحياناً أعتقد هذا، إذ أشعر بأنَّني تخلَّصت من كل ما يشكل ويؤسس الحياة والملكيَّة الخاصتين. أتمنَّى أن أمضي دائماً قدماً إلى أبعد حد في الانصهار مع الآخرين.
فترة عجفاء من حيث أخبار الرِّحلة. أليس السجن هو العرش الذي تستوي عليه الرَّتابة؟ أتساءل كيف أستطيع أن أكتب بكل هذا الانتظام وأجد مع ذلك دائماً شيئاً جديداً أقوله لك. ولا أرى من جواب آخر غير الرّجوع إلى النَّبع المتدفِّق الذي يجمعنا (...).
4 مارس 1980
زوجتي الحبيبة،
كلمة قصيرة إليك هذا المساء. أن أعيد ربط الصِّلة مع عادة مُكاتبَتك بدون أيِّ مبرِّر، لمجرَّد مؤانستك، وإبلاغك صوتي. حضورك، حبيبتي. رأيتك في حلم قبل يومين. حلم في مطلق الحرية، حيث فكرة السجن نفسها كانت ملغاة تماماً. أفكر فيك كثيراً، تعلمين هذا جيّداً، سواء كان الربيع أم لا. على ذكر الربيع، ففي هذا الحي نشعر أكثر بقدومه. سبب ذلك هو أشجار الساحة. في ظرف أسبوعين، أزهرت جميع أغصانها.
لقد تتبعت هذا الانبعاث يوماً بعد يوم. كان رائعاً منظر هذه الشجيرات الهزيلة الأسيرة وهي تخضر تدريجياً وتتفجَّر نسغاً. عادت الخطاطيف بصَخَبِها وخفَّتها. إنَّها تُحدث جلبةً صاخبة صباحَ مساء، لأنَّها تبني أعشاشها داخل ممرّنا. ثم هناك أيضاً الحَمام (لدينا الآن خمسٌ. الأنثى الّتي رأيتِها، وذكرٌ أتيناها به، وثلاثةُ فراخ لا تستطيع الأكل وحدها بعد).
الحديقة الصَّغيرة مزدهرة أيضاً. وأخيراً، السَّماء أكثر شساعة من السَّاحتين معاً. الجدران هنا ليست عالية والسَّاحات مربَّعة، ممَّا يجعل قطعة السَّماء التي نراها كبيرة نسبياً. وأنت، كيف تعيشين عودة "الفصل الجميل"؟
أمس، رتبت زنزانتي، غطيت صناديق الكرتون، حيث أضع كتبي وثيابي، بالورق الملوَّن الذي أتيتني به. كما غطيت الرفَّ الذي أرتِّب عليه أمتعتي. إنِّي فخور بالنتيجة. تغير مظهر زنزانتي تماماً. استطعت بشكلٍ ما أن أقضي على الكآبة الّتي كانت تخيِّم على المكان، غريب! الأمسية تمرُّ بسرعة في العزلة. نادراً ما أتمكَّن من إنجاز برنامجي قبل السَّاعة الثانية عشرة ليلاً حين أهم بالنَّوم (...).
ليلة سعيدة حبيبتي (...). أمر غريب، لكني أحس وكأن العودة تبتعد (...).
* مقتطف من كتاب "يوميات قلعة المنفى" لعبد اللطيف اللُّعبي. الترجمة عن الفرنسية: علي تيزلكاد والمؤلّف