الوزير الشرقي الإسحاقي: رحلة أمير مغربي

09 يناير 2021
هكذا كانت ليبيا في القرن الثامن عشر
+ الخط -

تعد رحلة الركب الأميري المغربي إلى الحج التي دوّنها الوزير الشرقي الإسحاقي واحدة من أهم رحلات الحج الرسمية المغربية خلال القرن الثامن عشر؛ نظرا لما انطوت عليه من أوصاف للحياة الاجتماعية والسياسية في محطات الطريق البري الطويل إلى الحجاز. وهي رحلة قام بها الأمير محمد بن عبدالله بن إسماعيل في طفولته، الذي أصبح فيما بعد واحداً من أهم ملوك المغرب الأقصى، وأكثرهم تأثيراً في أحداث عصره. وقد رافق فيها جدته، والدة والده، السيدة لالة خناثة بنت بكار المعروفة بسعة معارفها ووضعها بعض المؤلفات.

والوزير الشرقي الإسحاقي من رجال الثقة الذين اعتمدهم السلطان إسماعيل، إذ لعب أدواراً دبلوماسية، ونجح في مهمات حساسة كلفه بها مولاه، وكان فقيهاً ومؤرخاً وشاعراً ترك بعض الآثار المحفوظة في الخزائن المغربية والعالمية، بعضها تم تحقيقه والبعض الآخر ما زال حبيس الأدراج.

في هذا الجزء من الرحلة سنتناول المحطات الليبية، لما لها من أهمية في تاريخ هذا البلد خلال عهد الأسرة القره مانلية، وهو جزء حظي باهتمام الكثير من الباحثين والمؤرخين المهتمين بتاريخ ليبيا، ومنهم الدكتور عبد الهادي التازي.

أمضى الركب الأميري سبعين يوماً في الطريق بين مدينة فاس التي ودّعها 22 كانون الأول /ديسمبر 1730 وبين ولاية طرابلس الليبية، إذ وصلت القافلة إلى رأس أجدير بعد مغادرتها لمركز ابن كردان من ولاية تونس في الليلة الماضية. وقد قضوا ثلاثة أيام في منطقة زوارة وصلوا بعدها إلى متصرفية الزاوية، ثم صبراتة، وصولاً إلى قرقارش حيث قضى الركب ليلته، وأنفذ إلى العاصمة طرابلس بعض الطلائع لإحاطة رجال السلطة علماً بساعة وصول العائلة الملكية.


الاستقبال الرسمي بطرابلس
وكان الدخول على مدينة طرابلس عصر يوم الجمعة 29 شعبان وقد كان بالصدفة آخر يوم في شعبان فخرجت البلاد عن بكرة أبيها رجالاً ونساء إلى ظاهر المدينة. وقد هيأت الأسرة الحاكمة، أسرة القره مانلي، احتفالاً تشريفياً كبيراً، فقد بعث صاحب المدينة أحمد باشا القره مانلي بوليّ عهده الأمير محمد ليكون في استقبال الأمير المغربي وكان محفوفاً بكبار موظفي القصر، وعدد كبير من الجند والحرس. إذ خرج الجميع حتى ضواحي المدينة إلى نواحي قرقارش... وقد اخترق الركب وسط المدينة التي ازدحمت بالمستقبلين وصعد الناس سطوح المنازل وتسلقوا الأشجار، وخرج أعضاء السلك الدبلوماسي لمشاهدة هذا الركب الرائع. وقد تعالت أصوات الناس بالهتاف وكانت المدافع الكبيرة تتبارى في تحية الركب بطلقاتها المتوالية على العادة المتبعة بين الدول ذات السيادة على البحار.

وظهر الأمير محمد عليهم كرجل عاقل بالغ سن الرشد مع أن عمره لم يكن يتجاوز تسعة أعوام، وكان يرافقه بالإضافة إلى الوزير والقاضي، مؤدبه الخاص الفقيه أبو القاسم التسولي، تحيط به كوكبة من العسكر المعروف في تاريخ المغرب بعبيد البخارى أو (البواخر) كما يسمون اختصاراً. ولقد ارتدى لباسه المغربي الذي أضفى

عليه مزيداً من الأبهة، وكان الجنود المغاربة جميعهم يتحلون بزيهم العسكري الذي كانوا يعدونه عندما يدخلون إلى عاصمة من العواصم. وكانت سمعة المغرب سبقت مجيء الركب. فالكل يعرف الكثير عن السلطان إسماعيل الذي استطاع وحده دون بقية حكام الشمال الأفريقي أن يقف في وجه الأطماع الغربية وغيرها ومنعها من السيطرة على المغرب الأقصى.

ولقد أعدت منصة عظيمة لاستراحة الأمير الصغير قبل أن يلتحق بالقصر الذي خصص لمقامه، وهنا جرت "ألعاب الفروسية" التي اعتاد الفرسان الليبيون الشجعان القيام بها عندما يزورهم ضيف كريم أو زائر كبير. وقد حركت هذه الألعاب الجنود (البواخر) فأخذوا الجياد بدورهم، وأطلقوا العنان لها فبرزوا وأتوا بالعجب العجاب، الأمر الذي أثار انتباه رجال السلطة كثيراً، فأخذوا يزجون عبارات التقدير والإطراء للفرسان المغاربة.

وكان المقام بطرابلس فرصة للاطلاع عن معالمها ومزاراتها، فقد زاروا جامع عمرو بن العاص وجامع الناقة، ومسجد المجاز في داخل المدينة، ومسجد الشعاب ومسجد خطاب ومسجد الجدة بظاهر المدينة، ولم يهملوا الاطلاع عن المدرسة المنتصرية وقوس ماركوس أوريليوس، وجامع بني عبيد وبئر أبي الكتود. وزاروا مشهد سيدي عبد الوهاب القيسي، وسيدي سالم المشاط وضريح القائد التركي درغوت.


مرسى طرابلس الجميل
وقد لفت نظر الشرقي الإسحاقي أمور ثلاثة هامة في ليبيا، فلقد كان معجباً بمرسى طرابلس آنذاك، حيث كانت المدينة كبيرة جداً واسعة الأطراف، وقد اصطفّت بها المراكب الكبيرة كما تصطف الجياد في اصطبلاتها. والأمر الثاني الذي أثار انتباهه هو نوعية البرتقال الذي يوجد في حدائق طرابلس، فقد اختص من دون برتقال الدنيا بمزايا ثلاث فهو عَطِر الرائحة من جهة، ومرهف القشر من ناحية ثانية، وهو إلى هذا وذاك صادق الحلاوة، كما يقول.

وقضى الركب الملكي ثمانية أيام في ضيافة الأسرة القره مانلية، تقام له عند الإفطار المآدب الفاخرة ومتعددة الأشكال والأنواع، وثماني ليال كان الناس يسهرون في الحديث والذكر تارة، والدرس والعبادة تارة أخرى.

وكانت طرابلس في ذلك العهد، ملتقى حيوياً لسائر القوافل الصادرة التي تقصد البقاع المقدسة، أو تلك العائدة منها، والأعراب الذين يردون من الإسكندرية محملين بالحجاج والبضائع، يجدون في طرابلس جماعات أخرى تنتظرهم في طريقها إلى الإسكندرية، وهكذا دواليك طيلة السنة، ويترقب المشرقون أخباراً من الذين رجعوا عن حال تلك الجهات كما أن المغربين يجدون في طرابلس من البريد ما يشغلهم أياماً بأخبار الأسرة والبلاد، ولهذا فإن المدينة لا تخلو من مجامع وأندية.

غادر الركب مدينة طرابلس زوال يوم السبت الثامن من رمضان المعظم (17 مارس/آذار 1730)، حيث مروا بقرية الهنشير مقام الولي الصالح سيدي محمد الصيد، ومن هناك على الطريق الشرقية المؤدية إلى مدينة تاجوراء؛ بلدة الإمام الحطاب التي استقبلت بدورها الركب بحفاوة، ولقد زار الأمير محمد الجامع الأعظم الذي شيده مراد باشا، في تصميم قلعة ليكون مسجداً وحصناً في الوقت الواحد، هذه المدينة التي ينتسب إليها طائفة مهمة من العلماء الذين عرفنا أسماءهم في تاريخ جامعة القرويين بفاس.

ومن تاجوراء إلى مرحلة أخرى على مقربة من وادي الرمل، فوادي المسيد، في هذه المنطقة التي عرفت بقصر صيفان وضريح سيدي شهوان. وعرفت كذلك بوفرة شجر العشر (الخرْوع) فيها، والذي يستعمل كمادة للحرق، ومن وادي المسيد اتجه الركب إلى جبل النقيزة وهي منعرجات خطرة ومصاعد لا تخلو من وثبات ونقزات. ومن هذه الآكام العذراء إلى مدينة (الخمس) إلى ساحل الأحامد، وقد اقتضت هذه الأراضي من الركب الأميري مرحلتين اثنتين.


الوصول إلى لبدة ومصراتة
لقد كان الوصول إلى مدينة "لبدة" الأثرية التي جعل منها سبتيموس سفيروس لبدة العظيمة، وصلوا إليها يوم الخميس الثالث عشر من رمضان (22 مارس). ومن الطريف أن نستمع إلى وصف ممتع لهذه المدينة القديمة التي تكون مع صبراتة وأويا المدن الثلاث التي تسمى طرابلس. لقد وقف الركب الأميري عند لبدة وشاهد التماثيل الرائعة، ولم يفت الزائرين أن يبدوا إعجابهم بالحسن والجمال اللذين تمتاز بهما معالم لبدة.

ومن هذه المرحلة اتجهوا نحو قرية الدفينة. وفي يوم السبت منتصف رمضان كانوا على موعد مع مدينة مصراتة حيث ضريح القطب الأشهر الجامع بين الشريعة والحقيقة أبي العباس الشيخ سيدي أحمد زروق الفاسي البرنسي.

هنا في مصراتة أخذ الركب راحته وعاشوا مع ذكرياتهم وتضرعاتهم داخل الضريح وكان الأمير الصغير طبعاً في صدر الزائرين وصدر الداعين والمتوسلين، وقد أفرغت الخلوة التي يستريح فيها الشيخ زروق، فزارتها الجدة أم السلطان، وأطالت في العبادة والتبتل. وقد استمتعت الملكة وإلى جانبها الأمير الصغير ـ من وراء الحجاب ـ إلى نصيب من الدروس الحديثية من صحيح الإمام البخاري في أثناء مقامها هنا حول كتاب الحج. لقد كان الركب اتخذ عادته الدرس كلما استراح في مرحلة، لكنه في طرابلس وفي مصراتة كان أنشط منه في المراحل التي مرت.

كانت مصراتة المرحلة الأخيرة التي يودع فيها المؤمنون عمران طرابلس وهم يقبلون منها على ربوع عارية خالية، فلهذا كانوا يجدون في التضرع أمام ضريح زروق وفي الابتهال لديه نوع زاد روحي قوي يشحذ من عزيمتهم نحو اجتياز تلك الفيافي. ومن مصراته إلى قصر أحمد، ومنه إلى بوشعيفة، ومن هذه إلى متصرفية سرت.

لقد قضت القافلة أياماً في طريقها نحو مدينة أجدابية فمن السبخة، أو الشبكة كما يرسمها الإسحاقي، إلى شرف حسان، إلى وادي القبية، إلى العلانداية، ثم معطن النعيم حيث تزود الركب الأميري بالماء الضروري لقطع مراحل خمسة أيام، ثم وادي مسعودة، ثم قضوا المرحلة الموالية في قصر عطيش ثم في معطن بفلاة واصلوا السير بعدها إلى مقطع الكبريت ثم إلى مقطع الصبيحات، ثم مرتفعات زغبة، ثم بئر بالجديد ثم المدينة المشهورة اجدابية بلد الإمام سحنون قبل أن يلتحق بأفريقية، والأرض التي ينتسب إليها الشيخ أبو إسحاق الاجدابي العالم والمؤلف الذي تلقى دراسته في طرابلس على الأئمة، سواء منهم المقيمون أو العابرون.

هنا في أعيد الفطر الذي أهل عشية أمس السبت التاسع والعشرين من شعبان، ولم يسمح الركب لنفسه بأخذ نصيب من الرحلة لأن مجاهل برقة كنت لا تزال أمامه، وهكذا أخذوا طريقهم منذ عشية هذا اليوم الأحد. إنها بداية برقة، الغول الذي ارتفعت عقيرة سائر الحجاج بالشكوى من شبحه المخيف. لابدّ أن يكتسب الذين عبروا في الذهاب والإياب خبرة زائدة بقيمة الحياة والحرص على الدنيا.


في بلاد برقة
في الطريق إلى بنغازي سلك الركب طريق الصحراء المختصر المخطر الموحش المعروف عند الحجاج باسم "السروال"، حيث تؤخذ الطريق مباشرة من سلوق إلى المخيلي، عبر وادي مسوس ووادي سمالوس. وهذه لا يمكن لأي ركب أن يسلكها إلا إذا كان ركباً مثل ركب الأمير والأميرة الذي يتوفر على جيش قوي مدجج بالسلاح، وعلى مؤنة غذائية كافية، وبالتالي على رواد مهرة يتقنون آكام وتلال وأودية وشعاب هذا "السروال" الشائك.

لقد وصلوا بعد اجتياز هذه المراحل إلى قصر المخيلي. كل هذا السروال يقع في صميم الصحراء جنوب الجبل الأخضر، جزء منه تابع اليوم لمحافظة بنغازي وجزء لمحافظة البيضاء، والثالث لمحافظة درنة.

وبعد المخيلي كان المبيت في منهل التميمي على مقربة من مدينة درنة، حاضرة البحر، حيث تنعقد الأسواق الخاصة بالقاصدين. لقد اعتادت درنة تزويد ركب الحاج بما يحتاجه من المواد. وكانت هذه المدينة تستهوي العدد العديد من الحجاج بل والمهاجرين من الأندلس لاختيارها محل إقامة دائمة.

ومن التميمي راحوا إلى عين الغزالة، حيث يوجد على مقربة منها خليج يظهر على الخرائط الكبرى لساناً ممتداً من البحر المتوسط في الأرض. وبعد هذه المرحلة اتجه الركب حيث قضى ليلته في فلاة على مقربة من الشجرة المعروفة هناك بشجرة النبع، ومن هنا تحولوا إلى دفنة جنوب مرسى طبرق التي تردد ذكرها لدى جل الرحالة الذين قصدوا الديار المقدسة من أمثال أبي سالم العياشي وأبي عبد الله التازي.

طريق العودة
بالرغم من أن القسم الثاني من رحلة الإسحاقي مفقود، فإن هناك بعض الإشارات القصيرة والدقيقة في الوقت نفسه تعطينا فكرة عن الاستقبال الحار احتفاءً بالأمير الحاج في هذا التاريخ المبكر، فكرة كذلك عن التاريخ الذي كان الركب الأميري يقيم فيه بعاصمة البلاد آنذاك. لكأنما كان الشرقي الإسحاقي يكتب رحلته وهو يشكك في أنه يتمكن من إنهائها. لقد كان فعلاً طاعناً في السن ويشتكي من داء الرثية (الروماتيزم)، لأجل ذلك اغتنم فرصة وصفه لحرارة اللقاء الأول وبهجة الاستقبال الذي خصص للقافلة الشريفة وهي في طريقها إلى بيت الله، اغتنم ذلك ليجمل الكلام عن وصف احتفالات الباشا أحمد القرمانلي بأوبة الركب، ونراه يقول: "واحتفل الباشا في ضيافة ولد سيدنا نصره الله مع أمه أعزها الله غاية الاحتفال، فما ترك شيئاً من أنواع المؤنة والعلوفات وسائر المرافق إلا أحضره ووقف لدفعه خدامه وأعوانه الموكلين بذلك، وهذه عادته حتى انفصلنا عن البلد مشرقين وكذلك حين خيمنا على طرابلس مغربين جزاه الله بالخير، فقد قام بأداء الحقوق قيام الحرب لا المرقوق، وإنما يعرف ذا الفضل ذووه ولا شك أن البادئ أكرم".

المساهمون