قرأتُ، منذ أيام، باهتمام، مقالةً للكاتب والمترجم المصري محمد هاشم عبد السلام بعنوان "فينيسيا: تاريخ عريق وجمال ساحر وفنون حاضرة عبر العصور"، المنشورة في مُلحَق "ضفّة ثالثة" بموقع "العربي الجديد"، والتي أبرز فيها جوانب متنوّعة من التاريخي الغنيّ لهذه المدينة العريقة. ولكن لفت نظري، تحت عنوان جانبي هو "أقدم مقهى في العالم"، أنّ الكاتب أبرزَ ضمن معالم المدينة التي تستقطب السُّيَّاح "مقهى فلوريان" باعتباره "أقدم مقهى في العالم"، لكونه تأسّس عام 1720. وربّما وجد الكاتبُ إشارةً أو معلومة تذكر ذلك، ولكن كان عليه أن يتأنّى لأنّ هناك مقاهي كثيرة سابقة له في المشرق.
ويبدو أنّ الكاتب نقَل ذلك عن كاتب فينيسي مُعجَب بمدينته، ولهذا الحقّ في ذلك، ولكن ربما لا يعرف الكثير عن تاريخ القهوة ومئات المقاهي التي تأسّست ابتداءً من مكّة وانتهاء بلندن حتى ذلك التاريخ، أي 1720.
انتشرت "بيوت القهوة" في العالم الإسلامي قبل الغرب بمئتي عام
ومع أنّنا نعرف الكثير من هذه المقاهي على هذه الطريق الطويلة المُمتدّة من مكّة إلى إسطنبول، ومنها عبر مدن البلقان إلى إيطاليا وغيرها، إلّا أن معظمها اندثر أو تحوّل إلى أغراض أُخرى، حارماً تلك المُدن من مقاهٍ عريقة كان يُمكن أن تكون جاذبةً الآن لقيمتها التاريخية والسياحية، كما هو الأمر مع "مقهى فلوريان". ففي هذه الحالات يكفي أن يُسجّل تاريخ تأسيسه "Since 1720" حتى يتحوّل إلى قبلة للسُّيَّاح.
من اليمن إلى القاهرة عبر مكّة
عُرفت القهوة في اليمن منذ القرن الخامس عشر، وانتقلت بالتدريج إلى الحجاز مع الحُجّاج، ومنها إلى بقية العالَم العربي الإسلامي. وفي ما يتعلّق بالمقاهي الأُولى، لدينا وثيقةٌ مهمّة عبارة عن محضَر رفعَه ناظرُ الحسبة في مكّة إلى السلطان قانصوره الغوري، في السابع من ربيع الأول 917 للهجرة/ 1511 للميلاد، يتضمّن الشكوى من أنّ شراب القهوة "صار يُباع على هيئة الخمّارات"، نظراً إلى أنّ القهوة من أسماء الخمر، وأصبحت الأكواب تُدار في المقاهي كما في الحانات.
ومن مكّة وصلت القهوة والمقاهي إلى مركزَين مهمّين حوالي عام 1535 تقريباً: القاهرة ودمشق. ففي ما يتعلّق بدمشق، يُخبرنا المؤرّخ الدمشقي المُعاصر للأحداث محمد بن طولون (رحل عام 1545) عن قدوم قاضي مكّة وشيخ الحَرم ابن الضياء (رحل عام 1534) في زيارة إلى دمشق، ومشاركته في الاحتفال بعيد المولد النبوي عند الشيخ علي الكيزاوي، حيث شرب هناك مع الجماعة "القهوة المتّخذة من البُنّ" التي "لا أعلم أنّها شُربت في بلدنا قبل ذلك". ولمّا جاء فقيهُ الحجاز محمد بن عراق إلى دمشق عام 1539، أشار ابن طولون إلى أنّه "أشهر شُرْب القهوة وكثرت يومئذ حوانيتُها"، ليدلّ بذلك على الاسم الجديد الذي أُطلق على المقاهي: "حوانيت القهوة"، ثمّ "بيوت القهوة" بعد ذلك.
أمّا في ما يتعلّق بالقاهرة، فيُشير المؤرّخ المصري القريب من الأحداث أحمد جلبي بن عبد الغني (رحل عام 1737)، في كتابه "أوضح الإشارات فيمَن ولي مصر من الوزراء والباشات"، عن قدوم الوالي الجديد خسرو باشا الذي حكم البلد بين عامَي 1534 و1536، إلى أنه "في زمنه فشَتْ القهوة والمقاهي".
وقد استمرّ تمدُّد القهوة والمقاهي من دمشق نحو الشمال؛ إلى حلب أوّلاً ثم إلى إسطنبول التي افتتح فيها شمس الدمشقي وحكَم الحلبي مقهى في محلّة "تحت القلعة" عام 1554، لتنتشر فيها المقاهي بعد ذلك. ومن إسطنبول تمدّدت القهوة والمقاهي شمالاً وغرباً لتشمل سالونيك وبلغراد وسراييفو (التي كان فيها "مقهى الحاج شعبان" الذي افتُتح عام 1592، وهو أقدم مقهى في العالم إلى أن هُدِم عام 1942)، وغيرها من مُدن البلقان.
يشرب القهوة ثم يشرع في الكتابة
ويبدو هنا أنّ الشيوخ كانوا وراء تشجيع الآخرين على ارتياد المقاهي، بل إنّ بعضهم أصبحت تحلو له الكتابة فيها، بالإضافة إلى المتع الأُخرى التي أصبحت تُوفرّها لراحة البال والحديث. فالمؤرّخ الحسن البوريني (رحل في 1615) يروي في كتابه "تراجم الأعيان من أبناء الزمان" عن الشيخ أحمد العناياتي النابلسي (رحل عام 1602) أنّه "كانت عادتُه كلّ يوم على الصباح أن يسير إلى بيت من بيوت القهوة يكون فيه الماء الجاري مع المليح الساقي، ويشرب من بُنّ القهوة أقداحاً... ثم يشرع في الكتابة".
افتُتح "مقهى الحاج شعبان" في سراييفو عام 1592 وهُدم عام 1942
ولكن، كان في المقابل بعض الشيوخ الذين تشدّدوا في مَنْع شُرب القهوة في المقاهي، ومن هؤلاء كان الشيخ محمد الحسيني الذي عُيّن في دمشق قاضياً عام 1545، وأمر بمنع شُرب القهوة في المقاهي فور وصوله. ولم يكتف بذلك، بل كتب إلى السُّلطان سليمان القانوني مُطالباً بأن يُصدر فرماناً بمنع شُرب القهوة في المقاهي لـ"درء المفاسد"، وهو ما تحقّق بالفعل في شوّال 953هـ/ 1546م.
ومع تولّي لالا مصطفى باشا البوسنوي ولاية دمشق (1563 - 1568)، انفرجت الأمور وعادت بيوت القهوة إلى الظهور في دمشق في النصف الثاني من القرن السادس عشر، ومنها تابعَت طريقها إلى حلب وإسطنبول ثمّ إلى مدن البلقان وأوروبا الغربية. وبفضل وثائق الوقف، أصبح في وسعنا أن نُحدّد أماكن المقاهي الأُولى في دمشق التي أنشاها الوُلاة العِظام الذين عرفتهم دمشق خلال ذلك الوقت: أحمد باشا ومراد باشا ودرويش باشا وسِنان باشا. فقد أنشأ كلّ واحد من هؤلاء منشآت وقفية تُقدّم خدمات مجّانية، ولذلك كان عليهم أيضاً بناء منشآت أُخرى (حمّامات، وخانات... إلخ) تُدرّ الدخل لتغطية نفقات المنشآت الأُولى. وضمن هذه المنشآت أصبحت "بيوت القهوة" أو المقاهي مرغوبة، لأنّها كانت تؤجَّر ويذهب دخلُها لتمويل الخدمات المجّانية المُختلفة التي يقدّمها الوقف.
وبالاستناد إلى ذلك، فقد سمح كشفُنا لوقفية الوالي أحمد باشا الذي تولّى دمشق بين عامَي 1551 و1555، التي استُكملت بعد عودته إلى إسطنبول في عام 1574، أن نحدّد مكان أوّل مقهىً داخل دمشق العثمانية، وبالتحديد "داخل باب النصر"؛ أحد أبواب دمشق المُسوَّرة، والذي يُقابل القلعة من جهة الجنوب. فقد بنى أحمد باشا، الذي كان شاعراً معروفا بالمناسبة، في هذا المكان، مجمّعاً عمرانياً يضمّ جامعاً ومدرسة وغُرفاً لإقامة الطلّاب، ومطبخاً لتقديم الوجبات المجّانية للمُحتاجين، وبنى في جانبه "سوق الأروام" (جمع روم كان يُطلق على العثمانيّين أيضاً) الذي ضمّ ثمانية وثلاثين حانوتاً تجارياً، بالإضافة إلى "مكان مُعَدٍّ لطبخ القهوة"، لخدمة التجّار والزبائن.
وفي ذلك الوقت أيضاً، نجد أنّ الوالي درويش باشا بنى ضمن وقفه الكبير، خلال عامَي 1571 و1572، سُوقاً قُرب الجامع الأموي، الذي احتوى أيضاً على "مكان لطبخ القهوة"، بينما بنى سنان باشا وقفاً اشتمل على جامع ومدرسة وسبيل في جوار باب الجابية، وسوقاً مُجاوراً خارج السوق اشتمل على "بيت للقهوة" في 1595. ولكنّ هذه المقاهي وغيرها اندثرت، أو تحوّلت إلى محلّات لبيع مُنتجات جديدة رائجة بفعل "الحداثة" و"البَزْنَسة" الجديدة التي اجتاحت دمشق في النصف الثاني للقرن العشرين، وابتلعت معها مقاهيَ كانت لها شهرتُها مثل "مقهى السِّنانية"، الذي كان من أجمل مقاهي دمشق. ففي عام 1664، جاء إلى دمشق الرحّالة الفرنسي جان تيفنو الذي اعترف بأنّ "كلّ مقاهي دمشق جميلة"، ولكنه خصّ بالذِّكر "مقهى السِّنانية" الذي يزيد من رونقها، بسبب "ذلك العدد الكبير من النوافير الدافقة في بحراتها الكبيرة".
"مقهى النوفرة" الأقدم في دمشق
على الرغم من كلّ هذا التاريخ اللاحق الذي ابتلع قسماً من دمشق القديمة، بما فيه من مقاهٍ، من أجل مدّ "أوتوستراد الثورة" عامَي 1969 و1970، إلّا أنّ من المهمّ هُنا تحديد المقاهي الدمشقية التي سبقت "مقهى فلوريان" في فينيسيا، وبالتحديد أقدم مقهى دمشقي لا يزال موجوداً إلى الآن. وفي هذه الحالة، يُمكن أن تُسعفنا كُتب الرحلات إلى جانب كتب الوقف. وبالفعل فقد وجدتُ معلومة قيّمة في رحلة المُحدّث والمُدرّس في المدينة المنوّرة إبراهيم عبد الرحمن الخياري المدني المُسمّاة "تحفة الأدباء وسلوة الغرباء"، تكشف عن أقدم مقهىً في دمشق، وهو يسبق "مقهى فلوريان" ويُنافسه حتى الآن في اجتذاب السُّيّاح، وهو "مقهى النوفرة" الذي يقع على بُعد أمتار من الباب الشرقي للجامع الأموي (باب جيرون)، والذي يُمكن أن يعود تاريخه إلى حوالي 1600. وكان الخياري المدني قد غادر المدينة المنوّرة في رحلة طويلة إلى إسطنبول، ووصل أوّلاً، في صفَر 1080هـ/ 1669م، إلى دمشق التي جذبته وبقي يجول فيها ويكتب عن منشآتها ثمانية عشَر يوماً. وقد دُهش لجمال المقاهي في دمشق حتى باستعاذ الله وهو يقول "إنها بذلك القطر أعمر من الجوامع".
وفي ما يتعلّق بـ"مقهى النوفرة"، كتب عنه بعدما صادفه بعد خروجه من باب جيرون، وامتدحه كـ"مُنتزه أمام خان القهوة معدود من مُنتزهات الدُّنيا يكون به كثيرٌ من الفُضلاء يشربون القهوة". ويُلاحظ هنا أنّ "خان القهوة" هو عكسٌ للاسم الذي شاع في إسطنبول "قهوه خانه"، الذي يُوازي ما أُطلق عليه في العربية "بيت القهوة" خلال القرن الأوّل لانتشار المقاهي.
كان لهذا الكشف ما يُبرّر نَشْر مقالة جديدة عن مقاهي دمشق الأُولى وصولاً إلى "مقهى النوفرة" باعتباره "أقدم مقهى في دمشق" في مجلّة "الجيل"، ثم في كتابي "من التاريخ الثقافي للقهوة والمقاهي" الذي صدر في طبعته الأُولى عام 2012. وأذكر أنّني، في زيارة للمقهى، قدّمتُ صورة من المقال لصاحب المقهى الذي ورثه عن أجداده، فَسُرَّ به وعلّقه على جدران المقهى فترةً من الزمن.
الآن، مع مقالة محمد حسن عبد الوهاب، نكتشف كم هو مهمّ توثيق أقدم المقاهي في مسيرة القهوة والمقاهي من مكّة إلى لندن عبر إسطنبول والبلقان، وماذا تفعل كُبريات المدن لو كان فيها مثل "مقهى النوفرة" الذي حافظ بشكل عامّ على مظهره التقليدي. ربّما جاءت بعد نشر المقال المذكور في 2010 سنواتُ المرارة في دمشق لتغطّي على هذا الموضوع، ولكن أعتقد أنّ الأمر يستحقُّ معه أن تُولد مبادرة لتسجيل "مقهى النوفرة" ضمن التراث الإنساني لـ"يونسكو"، باعتباره أقدم مقهى نعرفه حافظ على ثقافة المقاهي (ومنها الحكواتي)، قبل أن يلحق به حريقٌ جديد.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري