في عام 1936، اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في وجه الاستعمار البريطاني، وشهدت البلاد آنذاك أحداثاً عنيفة، حيث مارس الاحتلال القتل والنفي والأسر بحقّ الفلسطينيّين. قامت النساء وقتها بابتكار شيفرة لغوية لإيصال رسائل لأزواجهنّ وأقاربهنّ الموجودين في الأسْر، دون أن يفهم المستعمر فحواها. وفي كثير من الأحيان استُخدمت تلك اللغة لإخبارهم أنَّ الفدائيين قادمون كي يخلصّوهم من الأسْر.
واحدة من تلك الشيفرات كانت أغنية "يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح"، التي راحت النساء تغنّيها من على الجبل. عُرفت لغة التشفير هذه باسم "المللاة"، واعتمدت على إضافة حرف "اللام" لتمويه الكلمات وتضليل الجنود والمخبرين حينها.
لكن، اليوم في عام 2024، مع تطوّر الحياة وأنواع الحروب وأشكال المقاومة والنضال، كان من الطبيعي أن نجد أنَّ أشكال الرقابة وأنواع المخبرين قد تطوّرت هي كذلك لتشمل المنصّات الإلكترونية؛ حيث نقضي الوقت الأكبر من حياتنا. ويمكن تطبيق ذلك بشكل واضح على القضية الفلسطينية. ففي ظلِّ حرب الإبادة الجماعية على غزّة، رأينا كيف انتقلت الحرب أيضاً إلى منصّات التواصل الاجتماعي وإلى المنابر الإلكترونية، فقد مارست هذه المنصّات دور الرقيب والمُخبر الجديد، لتمنع بذلك أيّ مظهر من مظاهر النضال أو التعبير عن التضامن مع قضية الإنسان الفلسطيني المدافع عن حريّته.
ضرورة ابتكار منصّات عربيّة بخوارزميات تخدم سرديتنا الإنسانية
هذا ما ناقشته حلقة من بودكاست "حرِّر"، حملت عنوان "النضال في زمن الخوارزميات"، حيث استضافت مُعدّة البرنامج ومُقدّمته جنى قزّاز الخبير التقني والمُساهم في حملة "فيسبوك يعدمنا" خالد طه، لتسليط الضوء على معركة الوجود الفلسطيني على المنصّات الرقمية، وكيفية استخدام الخوارزميات سلاحاً لمحاربة المحتوى الفلسطيني، وطرق الالتفاف حول معايير التعبير الفضفاضة.
بين حسابات تُراقَب، وأخرى تغلَق، ومنشورات لا تصل إلى متابعيها، خصوصاً عندما تنشر أيّ شيء يتعلّق بفلسطين، يبدو أنّ بعض المنصّات الرقمية كانت مهيّئة لمثل هذه الرقابة، لذلك كان لا بدّ من فهم الخوارزميات. هكذا بعد تعريف مبسّط لها بأنّها "مجموعة رياضية من القواعد تحدّد مجموعة من البيانات"، سنفهم أنّها، في سياق المنصّات الرقمية، ستكون المنظّم لكلّ شيء: الإعلانات، المنشورات، الترتيب، طريقة الظهور، وكلّ ما تمكن رؤيته عند فتح الحساب الشخصي لأيّ مستخدم على أيّة منصّة.
ضمن هذا المعنى، تحدّث خالد طه عن معنى الإعدام الرقمي، وخصوصاً ذلك الذي يمارَس ضدّ القضية الفلسطينية. حدّد طه أنّنا نعيش ضمن عالم رقمي، "وهذا العالم الرقمي ليس افتراضياً، بل هو عالم حقيقي. ويجب الانتباه إلى هذا الأمر". واستطرد: "في ظلّ هذا العالم الرقمي، ثمّة حياة رقمية وهوية رقمية، وهناك مواطنة رقمية، وإذا قامت منصّة من هذه المنصّات الرقمية، التي لها انتشار واستخدام واسع، بـ'قتلك' أو 'نفيك'، دون ذكر الأسباب الموجبة لذلك، فنحن أمام 'إعدام رقمي'".
هذا تحديداً ما حدث مع القضية الفلسطينية، لا سيّما في ظلّ العدوان الأخير، حيث نبّه المتحدّث إلى أنّ أصحاب هذه المنصّات قاموا ببرمجة هذه الخوارزميات، أي تعليم الآلة، على عرض ما يجب نشره وحجب أو خنق ما لا يريدونه. هكذا تحاول اللوبيات الصهيونية، كما تابع الخبير، السيطرة على المفاهيم، كمفهوم الكراهية أو العنف تمثيلاً لا حصراً، ضمن هذه المنصات، إذ تجنّده لخدمة سرديتها في معاداة السامية، فتصبح أية رواية فلسطينية مناهضة للاحتلال معادية للصهيونية، وبالتالي معادية للسامية، وتقوم هذه المنصات، المبرمجة سابقاً، بحجب هذا المحتوى وإعدامه رقميّاً".
ما الحل، إذاً، في ظلّ هذا الحصار؟ هل يكمن في التلاعب على الخوارزميات عبر فصل الكلمات، أو وضع مرادفات لها، أو استخدام الرموز والأرقام؟ يجيب خالد طه: كلّا، فالأمر أصعب مما نتخيّل، لأنّ هذه الخوازميات تُعدَّل بشكل دائم، وتمكن برمجتها. لا شكّ أنّ الحل سيكون في ابتكار منصّات عربيّة جديدة، خارج هذه المنصّات، والتسويق لها ودعمها وبرمجة خوارزمياتها بما يتناسب مع سرديتنا الإنسانية: سردية الإنسان المناضل من أجل الحرية، سردية الإنسان الفلسطيني الذي يقاتل أبشع أشكال الاحتلال والظلم والطغيان.