بالتزامُن مع انعقاد جلسات الدعوى التي قدّمتها جنوب أفريقيا ضدّ الاحتلال الإسرائيلي أمام "محكمة العدل الدولية" في لاهاي، بهدف وقف الإبادة الجماعية المستمرّة في غزّة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، صدر حديثاً، في بيروت، العدد الحادي والسبعون من مجلّة "المفكّرة القانونية" الفصليّة، والذي يتوافر، أيضاً، بصيغة إلكترونية عبر موقع www.legal-agenda.com.
يتناول العدد انعكاسات العدوان الصهيوني على لُبنان، وبخاصّة في جنوبه، إلى جانب أبرز المستجدّات القانونية والقضائية، كما يخصّص ملفّاً لـ"ما ولّدته الحرب على غزّة من حروب موازية في الفضاء العامّ والقانون، وعلى صعيد العلاقات الدّولية والحقوق الأساسية والقِيم الديمقراطية، وهي حروب يُنتظر أن تترك آثاراً كبيرة على العالَم بأسره"، كما جاء في التقديم للعدد.
وطرحت المجلّة رؤيتها من العدد، حيث أنّ العدوان الإبادي له آثارُه، على طريقة مقاربة "المفكّرة" للقضايا القانونيّة في المستقبل، أي بعد انتهاء العدوان، وعلى ضوء هذا صاغت ثلاثة تعديلات، هي: تعزيز العمل على تعرية عوامل الهيمنة الدولية، وفكّ الارتباط بين القانون الدولي الإنساني، والديمقراطية ودول الشمال السياسي، وتعزيز التواصل الفكري والحقوقي وبخاصة بين دول الجنوب ردّاً على الاستفراد والاستضعاف.
حربٌ تعمل على إسقاط الحماية الإنسانية والقانونية والصحّية
وتحت عنوان "كرونولوجيا حرب الإبادة ضد فلسطين: وصفة الإبادة"، وضّحت الباحثة والناشطة الحقوقية نور كلزي المنهجية الإسرائيلية في الحرب، والتي تتمثّل في إسقاط الحماية الإنسانية (لا رأفة بـ"العماليق")، والقانونية (أبلسة القانون الإنساني)، والصحّية (تدمير المستشفيات)، وحماية مجلس الأمن (الإبادة تحصل أمام أعين العالم).
وتناولت لميا الساحلي، في مادّتها "مدنيّو الجنوب الذين سقطوا ظُلماً على تُرابه بكُلّ ما أوتوا من حياة"، الحربَ بوصفها عدواناً مُباشراً على المدنيّين، قبل أي شيء آخر. أمّا حسين شعبان فتطرّق إلى "حرب الزيتون"، وكيف أحرقت قنابل الفوسفور الأبيض 40 ألفاً من أشجار الزيتون في الجنوب اللبناني، وكيف يُشكّل محصول الزيتون دورة اقتصادية واجتماعية متكاملة تسبب العدوان بقطعها.
"حربٌ ضدّ الأرض" عنوان مساهمة أماني البعيني، التي أشارت فيها إلى سياسات تعطيل وظائف الأرض واستعمالاتها، من خلال انتهاج "سياسة الأرض المحروقة". واستعادت سعدى علوه حرب تموز/ يوليو 2006 في مادّتها "النيران الإسرائيلية تؤجّج ذاكرة تموز 2006"، وكتبت إيناس شرّي عن "لاجئون فلسطينيّون في مخيّمات لبنان: 75 عاماً على خروجنا المؤقّت"، حيث أجرت حوارات مع مُسنّين عاشوا تفاصيل النكبة، وعادوا ليروها مجدّداً في العُدوان القائم.
أمّا ملفّ العدد، "ما بعد غزّة"، فأعدّه الحقوقيّان نزار صاغية وأُلفة لملوم، حيث تناول صاغية في مادّته "الإبادة المُضادّة" العدوان بوصفه حرباً ضدّ الحقوق الأساسية والديمقراطية، وضدّ أنسنة القانون الدولي، متسائلاً: "هل ما يزال الإنسان القيمة العُليا؟"، حيث تحوّل إنكار إنسانية الفلسطينيّين - كما ورد غير مرّة على لسان مُجرمي الحرب الإسرائيليّين - إلى مقدّمة لإنكار إنسانية قانون النزاعات.
وتحت عنوان "التفكير المُحرّم"، كتب المُحامي كريم نموّر مادّة تنطلق من السؤال الذي ساد في الإعلام الغربي عن إدانة "حركة حماس"، واصفاً إيّاه بـ"السؤال المُبتذل"، كما فصّل في تقييد الغرب لحرّية التعبير صوناً للسرديّة الإسرائيلية؛ مثل الحجب المُستتر المُمارس على منصات التواصُل الاجتماعي، وحَظْر "حركة مقاطعة إسرائيل"، والتهديد الوظيفي والصَّرف من الخدمة، وتحوير مفهوم معاداة الساميّة، وحجب الصحافة المعارضة، وقتل الصحافيّين (في غزة ولبنان) أو التهديد بالقتل.
"معارك حول القانون الدولي: أو مساعٍ لأبلسة الإنساني"، عنوانٌ تناول فيه نزار صاغية ونور كلزي، المساعي الانقلابية ضدّ شرعة "الأمم المتحدة"، وهو التوصيف الوحيد للدُّول الكبرى الداعمة لـ"إسرائيل" اليوم، التي قلبت حقّ الدفاع عن النفس، وجعلته مُحتكراً من قبل الدولة المُحتلّة، في الوقت الذي تحجب فيه حقّ تقرير المصير عن الشعب الفلسطيني بـ"تهمة الإرهاب".
وفي باب "حوار"، تضمّن الملفّ لقاءً، أجرته ألفة لملوم، مع المؤرّخ الإيطالي وأستاذ التاريخ الثقافي في "جامعة كورنال" الأميركية، أنزو ترافرسو، الذي تتناول أبحاثه بشكل خاص التوتاليتارية وسياسات الذاكرة؛ حيث تحدّث ترافرسو عن "مأسسة ذاكرة المحرقة اقترن بعلاقة تفاضُلية مع إسرائيل"، كما بيّن أنّ مُعاداة الساميّة لم تعد مُكوّناً محدّداً في الثقافة الغربية، وتركت مكانها للإسلاموفوبيا التي أصبحت الشكل المُهيمن للعنصرية.
وفي نفس الباب، وجّهت "المُفكّرة" ثلاثة أسئلة لتيري لابيكا، أستاذ الدراسات البريطانية في "جامعة باريس"، على خلفية استهداف كلّ من السياسيَّين؛ البريطاني جيرمي كوربين (رئيس "حزب العمّال") والفرنسي جان لوك ميلونشان (رئيس "حزب فرنسا الأبيّة")، إثر انتقادهما لـ"إسرائيل". وفسّر لابيكا الحراك القوي المُناهض للعدوان في بريطانيا بتحوّل "حركة مقاطعة إسرائيل" (BDS) وحملة التضامن مع فلسطين إلى نقطة ارتكاز للقطيعة بين النُّخب الحاكمة والقواعد الشعبية، كما لفت إلى أنّ الدولة الفرنسية لا تكتفي بفتح الباب أمام اليمين المُعادي تاريخياً لليهود، بل هي نفسها من بين مُنتجي العِداء التاريخي لليهود، معتبراً أنّ أي سياسة حِمائية لليهود في فرنسا هي امتدادٌ للفكر الذي يُعتبر "حالة شاذّة في المجتمع".
وتضمّن هذا القسم حواراً مع الطبيب الفلسطيني غسان أبو ستّة، الذي تحدّث عن شهادته حول الإبادة الجماعية في غزّة، وواقع القطاع الطبّي في ظلّ الإبادة الممنهجة.
وتناول سامر غمرون "القانون في ظلّ المجازر الإسرائيلية في فلسطين: موتُ وَهمٍ ليبرالي وعواقبه في بلادنا"، حيث تناول أوّلاً الانكسار الخطابي الغربي ونتائجه، والذي تمثّل في الانتقال من النفاق الليبرالي إلى تبرير الإبادة الجماعية، وثانياً انهيار الخطاب الحقوقي تجاه فلسطين، حيث رُهاب الإسلام يُجهز على الليبرالية الغربية، وختم بالتحدّيات التي تواجه الحقوقيّين العرب، في مرحلة ما بعد تصدّع الخطاب الحقوقي.
أمّا خارج موضوع ملفّ العدد، الذي وقّع رسوماته الداخلية الفنّان رائد شرف، فتوزّعت المساهمات على مجموعة من القضايا القانونية التي تخصّ الشأن اللبناني، وإن تقاطع بعضها في ملامحه العامّة مع مشهد الدمار الراهن، كقضية انفجار "مرفأ بيروت"، في الرابع من آب/ أغسطس 2020.
وفي هذا الإطار، نقرأ: "مجلس شورى الدولة: وزير الداخلية عرقل إبلاغ مذكّرات التحقيق في قضية المرفأ" لعلي سويدان، و"قانون التقاعُد: إنجاز مع وقف التنفيذ" لإيلي الفرزلي، و"جلسة سقوط النظام البرلماني: بِدعتا النائب الصامت والنائب على الشُّرفة" لوسام اللّحام، وغيرها من المقالات والقضايا، في حين حملت الصفحة الأخيرة الكلمات الأخيرة لشهداء من غزّة، هُم: الصحافية عُلا عطالله، والشاعر رفعت العرعير، والمُصوِّر رشدي سرّاج، والشاعرة هبة أبو ندى.