بعد عشرين عاماً من وقوعها، ما زالت معركة "مخيّم جنين" حاضرة بقوّة في الوعي والفعل السياسي الفلسطيني والعربي، الأمر الذي يُعطي المواجهة مع آلة الإجرام الصّهيوني بُعداً تاريخيّاً ثابتاً لا يتقادم. كما أنّ ذلك الحضور يمتدّ صوب مساحات مختلفة، إذ ينطلق من العسكري ويشتبك مع الفكري والتحليلي. على هذا المنطلق بالذات، يرتكز كتاب الباحث جمال مصطفى عيسى حويل "معركة مخيّم جنين الكبرى 2002: التّاريخ الحيّ"، الصّادر حديثاً عن مؤسّسة الدراسات الفلسطينية في بيروت.
يُفتّش حويل في معاني المعركة وآثارها الطويلة، خاصة أنّها كالانتفاضة الثانية شكّلت حدثاً صادماً زعزع الحسابات الإسرائيلية، ذلك لما أبدته القواعد الشعبية من استراتيجيات في المقاومة، لم يعتد الاحتلال أن تكون بهذا النفس الطويل. كذلك حوّلت المعركة المخيّم إلى قيمة وطنيّة جامعة، تثبت على الدّوام أنّ زمن الهزيمة يحضر عند من آمن به فقط. سوى ذلك، فلا حلّ آخر مع هذا العدو إلّا مقاومته، ووفقاً لهذه الرؤية العامّة يكون السؤال: ماذا بعد النّصر والهزيمة؟
مثل كلّ المعارك الوطنية عبر التاريخ فإنّ معركة جنين محوَرتْ حولها أسئلةً، هي في حقيقة الأمر تشعّباتٌ سياسيّة وفكرية. أسئلة هزّت قناعات بعضهم وثبّتت قناعات آخرين، وبين التيارين ظهر الكثيرون لاستغلال الحدث والنّظر إليه بوصفه فرصةً لدفع مشاريعهم السياسية، وكذلك انكفأ المضحّون الحقيقيّون عن الفعل السياسي بسبب ما خلّفته المجزرة من جراح مباشرة، وشهداء كُثر آمنوا بقيمة الصّمود. بمعنى آخر إنّ انكفاء المضحّين المباشرين جاء نتيجة صعود من زهد بالمعركة أوّلاً، ثم رأى فيها بعد انقشاع الغبار فرصة للكتابة، إنّما عن بُعد.
تتقاطع في عمل حويل مجموعة من الرّوافد الحيويّة، أو ما تمكن تسميته بـ"فقه المعركة" من حيث هي حضورٌ لحظيّ غير مُستبعَد الوقوع، وهذا يتجلّى في أنّ المقاوِم ذاته هو من يكتب بعد عشرين عاماً على ما تحمله هذه الصيرورة من تماسك. كذلك يسدّ الكتاب ثغرةً في ظلّ قلّة الأعمال الفكريّة أو التأريخيّة، التي تنظر في واقع ما بعد المعركة وتحوّلاته ودروسه المستفادة. علاوة على ذلك، فإنّ تقديم تحليل سياسي بخبرة عسكرية وموقف ثقافي، يؤكّد أنّ هذه المسارات تعمل بروح كلّية جامعة دون أيّ انفصال. إذن، إنّها أقانيم المُواجهة الوحيدة والمشروعة للاحتلال الصّهيوني وإجرامه المتواصل.