"الحرب الصهيونية على غزة/ فلسطين: إنتاج الصورة وصناعة الرأي العام" عنوان الندوة التي نظّمها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في فرعه بتونس، مساء أمس الجمعة، وشارك فيها أربعة باحثين ومتخصصين تونسيين في العمل الصحافي، هم: جمال الزرن، وأمين بن مسعود، وسيف الدين العامري، وعبد المجيد الجبالي، وأدارها صفوان الطرابلسي.
بدأت الندوة بمداخلة بجمال الزرن، بعنوان "طوفان الأقصى واتجاهات الرأي العام الغربي"، أشار فيها إلى كيفية تشكّل الرأي العام أثناء الحروب، طارحاً نموذجاً تأسيسياً في القرن العشرين تَبيّن مع الحرب العالمية الأولى، التي رافقها ظهور قوي للصحافة المكتوبة ووكالات الأنباء. واستكملت الحرب العالمية الثانية التصوّر نفسه، وربما التمثيل الأشهر جاء مع وزير الدعاية النازية غوبلز، وصعود نجم الإذاعات، ومن ثم الدخول في عصر الحرب الباردة وظهور التلفزيون، والتي تجسّدت فيها مقولة ريجيس دوبريه: "لقد انتصرت الميديولوجيا على الأيديولوجيا". ومع نهاية القرن بدأت قيادة الرأي العام من خلال البث المباشر والفضائيات، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي وخوارزمياتها اليوم.
دعايةٌ إسرائيلية مأجورة لتحشيد الرأي العام الغربي
ولفت الباحث إلى أن نتائج سبر الآراء لا تُعلَن مباشرة إلى الجمهور قبل المرور بالمعنيين أولاً، وقد لا تُنشر مخافة أن توظّف من الطرف المقابل، وهذا ما جرى في فرنسا مؤخّراً مع استطلاعات رأي حول "طوفان الأقصى"، وأيضاً سبر آخر للآراء أجرته "جامعة هارفارد"، يظهر فيه أن 51 بالمائة من الشباب الأميركي بين 18 و24 سنة يرون ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول مشروعاً. كذلك توقف الزرن عند دور الدعاية الإسرائيلية في تشكيل الرأي العام الفرنسي، من خلال نشر مقاطع فيديو (تجاوزت المائة)، عبر وسائل إعلام فرنسية، والتي تربط بين حماس والإرهاب، وتعتبر أن حركة المقاومة الفلسطينية هي "داعش".
وختم الباحث بأن عدالة القضية الفلسطينية، كما أبرزتها شبكات التضامن على وسائل التواصل الاجتماعي، رغم الحجب الكبير و"الفلترة" لهذا المحتوى، كشفت عن كتلة كبيرة مؤيّدة لها على مستوى الشعبي، يمكن تسميتها بـ"أخلقة الرأي العام"، وهذا ما لن يقوى المال الإسرائيلي على كسره وتحجيمه.
بدوره قدّم الباحث أمين بن مسعود مداخلته الموسومة بـ"صورة المقاومة الفلسطينية منظوراً إليها في الإعلام الغربي الناطق بالعربية: فرانس 24 وبي بي سي نموذجاً"، حيث أشار إلى أن صناعة الصورة هي نتاج نظرية المعرفة وميكانيزم الفهم، وبالتالي فالتغطية الإعلامية أبعد وأعمق من كونها تغطية إخبارية، هي في العمق تعبير عن المقاربات والتصورات والرؤى، كما أن وسائل الإعلام تعمل على بناء التمثلات على الذات وعلى الآخرين. وترجمة هذا على وسيلتَي الإعلام المذكورتين يضعنا أولاً أمام محاولاتهما "دعشنة" المقاومة الفلسطينية. ورغم استخدام الإعلام الغربي لمصطلح "مقاومة" في السياق الأوكراني، إلا أننا لم نسمعها أبداً في السياق الفلسطيني. فالبنسبة إلى القناة الفرنسية "فرانس 24"، فإنها انطلقت بتوصيف أفعال السابع من أكتوبر/ تشرين الأول بانقطاع تام عن سياقات التاريخ، بمعنى أن "طوفان الأقصى" لا يُفسَّر بما سبق، ولكنه يُفسِّر ما يتلوه؛ في نوع من استلاب التاريخ والسردية.
لا يستخدم إعلام الغرب تعبير المقاومة في السياق الفلسطيني
كل سياقات التهويد والأسرلة والحصار والاستيطان والاحتلال، مع هذا النوع من الإعلام، معزولة عن "طوفان الأقصى"، لتصبح المقاومة الفلسطينية هي المُهاجمة، و"إسرائيل" هي المدافعة عن حدودها. كما أن القناة التلفزيونية عنونت تغطيتها بـ"الحرب بين حماس وإسرائيل"، وكأن الأخيرة ليست هي المحتلة لأرض فلسطين هي حرب بلا جغرافيا، مجرد منازلة مُعلّقة بلا تاريخ، كما بثّت تقارير حول "قطع الرؤوس"، رغم ابتعاد حتى أميركا، لاحقاً، التي سارعت إلى تبنّي هذه الأخبار، وتبيُّن زيفها لاحقاً. كذلك سعت القناة الفرنسية إلى بناء مفهوم حول "المقاومة القلقة"، التي تُعاني من اضطراب مع محيطها ومع باقي الفصائل الفلسطينية، فضلاً عن اختزال المقاومة بحماس، وحماس بالإخوان المسلمين، والتركيز على قَلق أو "نشاز" عن المحيط التطبيعي العربي، وارتباط حماس بإيران.
أما "بي بي سي عربي"، فلم تختلف عن نظيرتها في التركيز على البُعد العسكري والمساواة بين الطرفين، بعيداً عن الزوايا التاريخية، حيث تبنّت كامل التوصيفات التي أطلقها نتنياهو حول "المدنيين" و"الرهائن" الذين لا تكترث كتائب القسام لهم، حسب القناة البريطانية التي ركزت في قفلات التقارير (العبارة الأخيرة) على مصطلحات مثل "جرائم الحرب"، أو تصريحات الناطق باسم جيش الاحتلال.
"المُراسِل الحربي: قيمة خبرية تهدّدها الدعاية" عنوان المداخلة الثالثة التي قدّمها الباحث سيف الدين العامري، حيث أشار فيها إلى أن المراسل الحربي مُدرّب تدريباً خاصاً، ذهنياً وبدنياً، قبل الذهاب إلى جبهات القتال؛ عملٌ قد يُطابق أحياناً التدريبات العسكرية التي يخضع لها الجنود في الميدان، كما لفت إلى أن عمل المراسل الحربي يجب أن يكون مضموناً ببرتوكلات الحماية القانونية، وهذا يُساعدنا اليوم على محاكمة الكيان الصهيوني على جرائمه التي يرتكبها بحقّ الإعلاميين والصحافيين في غزة. ولكن علينا أن نعي تماماً أن الصورة الصحافية للمراسل الحربي لا تعني أبداً "المسافة صفر".
ولفت العامري إلى أن المراسل الصحافي هو رئيس فريق التغطية، وضرب مثالاً عن تغطيته في ماريوبول الأوكرانية في آذار/ مارس 2022، ومحاولات الإنزال الروسية خلف خطوط الدفاع الأوكرانية، والطريقة التي حاول فريقه التعامل بها مع التغطية. مع ذلك فإن الحرب الروسية الأوكرانية تعدّ كلاسيكية أمام ما تشهده غزة اليوم، حيث يُشيّع الصحافيون زملاءهم على الهواء مباشرة. كذلك ميّز الباحث بين "التغطية الحربية" و"الدعاية الحربية"، إذ تُحتّم الأولى مبادئ عمل أخلاقية صارمة تختلف تماماً عن الثانية، ويختتم: "أحياناً تقع الصحافة في فخ البروباغندا دون أن تشعر".
وخُتِمت الندوة بمُداخلة الباحث عبد المجيد الجبالي، بعنوان "القضية الفلسطينية ومواقع التواصل الاجتماعي: المقاومة الرقمية والرقابة المُمنهجة على المحتوى العربي"، أشار فيها إلى أنه، ومنذ اليوم الأول، بدا أن هناك رواية فلسطينية تريد أن تشقّ طريقها إلى وسائل الإعلام الرقمية الجديدة، ولفت إلى دراسة "مكانة 360" بالتعاون مع "معهد السياسة والمجتمع" في عمّان، التي استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل واقع "الاستماع الرقمي" الذي نعيشه على وسائل التواصل الاجتماعي، بعد عملية "طوفان الاقصى"، وخلُصت الدراسة إلى أن هناك لجاناً رقمية تمركزت في الهند، دعمت رواية الاحتلال، لتتفوّق على التعاطف العالمي مع القضية الفلسطينية، وخاصة بعد مجزرة "المستشفى الأهلي المعمداني".